الحمد لله.
أولا :
قد يكون من المهم هنا أن نذكر السائلة بأن لكل مشكلة حلها وعلاجها ، وإذا كان الطلاق ـ حقيقة ـ هو حل لمشكلات معقدة في الحياة الزوجية ، ولأجل ذلك شرعه الله ؛ فليس من شك في أن على كل عاقل أن ينظر إليه باعتباره ( الكيّ ) المؤلم الذي يضطر إليه المريض ؛ وعقلاء العرب يقولون : " آخر الدواء الكي " !!
وقبل التفكير في هذا "الكي" لا بد من استنفاد جميع الوسائل الممكنة للتوصل إلى صيغة توافقية تقل معها الخلافات ، وتكثر بها الموافقات ، وحينئذ – فقط – قد يرتاح الضمير ، وتهدأ النفس ، ويطمئن البال إلى صواب القرار الذي سيتخذه في سبيل العلاج .
وغالب الظن أن الأخت السائلة قد سمعت أو قرأت الكثير من النصائح في هذا الشأن ، ولكن ذلك لن يمنعنا من تذكيرها بنصيحة قد تمنحها منظارا آخر تقايس به الأمور ، هو منظار الموازنة بين الحسنات والسيئات ، وتقدير المساوئ التي تقنع العقل والوجدان بأحقية طلب الانفصال عن رباط الزوجية .
إن جلسة حوارية واحدة هادئة كفيلة – في كثير من الأحيان – بإعادة اللحمة بين أشد المتخاصمين ، وكفيلة أيضا أن تشق بداية الطريق نحو التفاهم الكامل ، ولكن كثيرا من الناس - للأسف - لا يدركون ذلك ، ولا يسعون لتحقيقه ، بل سرعان ما يصيبهم اليأس والقنوط بسبب فشل الحوار مرة أو مرتين أو أكثر ، مع أن العاقل هو الذي يعتبر إقامة العلاقة الناجحة بالزواج السعيد تحديا يسعى لتجاوزه ، وليس إلى تعجيل إعلان فشله ، خاصة وأن العلاقات الإنسانية دائما ما تعتريها الاضطرابات والتقلبات ، فيكتسي بها القلب حصانة من الأناة والهدوء والخبرة التي تعينه على إنجاح أي علاقة بعد ذلك .
ولا ينبغي أن تكون الأسباب الشرعية عن الزوجين بمعزل ،
بل يتفقد كل منهما نفسه ، ويراقب تقصيره في جنب الله عز وجل ، فلعل معصية وقع بها
عاد عليه شؤمها وأذاها في أهله وبيته ، فالمعاصي أساس كل داء ، والتوبة والاستغفار
أساس كل دواء ، والله عز وجل أمرنا بتقواه في عشرات المواضع من كتابه الكريم ، وعلق
النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة على تحقيق هذا الأمر العظيم .
يقول الله عز وجل : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا
قَوْلًا سَدِيدًا . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) الأحزاب/70-71.
ويقول سبحانه وتعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ
وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ
نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) الحديد/28.
ويقول جل وعلا : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا
عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا
فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) الأعراف/96.
ثانيا :
إذا استحالت العشرة بين الزوجين ، ولم يمكن التفاهم بينهما ، ولم يبق مجال للعشرة
بالمعروف ، وإعطاء كل ذي حق حقه : فليس على الزوجة حرج شرعي في طلب الطلاق .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله :
" أما إذا تشاقق الزوجان ، ولم تقم المرأة بحقوق الرجل وأبغضته ، ولم تقدر على
معاشرته ، فلها أن تفتدي منه بما أعطاها ، ولا حرج عليها في بذلها ، ولا عليه في
قبول ذلك منها ؛ ولهذا قال تعالى : ( وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا
آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ
خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ
بِهِ ) الآية " انتهى من " تفسير القرآن العظيم " (1/613)
وقد ثبت في السنة النبوية : ( أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ أَتَتْ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ !
ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعْتِبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ ، وَلَكِنِّي
أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ ،
وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً ) رواه البخاري (5273)
قال ابن حجر رحمه الله :
" أي : لا أريد مفارقته لسوء خلقه ولا لنقصان دينه ، زاد في رواية أيوب المذكورة :
( ولكني لا أطيقه )... بل وقع التصريح بسبب آخر وهو أنه كان دميم الخلقة ، ففي حديث
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - عند ابن ماجه - : ( كانت حبيبة بنت سهل عند ثابت بن
قيس وكان رجلا دميما ، فقالت : والله لولا مخافة الله إذا دخل علي لبصقت في وجهه )
قوله : ( ولكني أكره الكفر في الإسلام ) أي : أكره إن أقمت عنده أن أقع فيما يقتضي
الكفر ، ...وكأنها أشارت إلى أنها قد تحملها شدة كراهتها له على إظهار الكفر لينفسخ
نكاحها منه ، وهي كانت تعرف أن ذلك حرام ، لكن خشيت أن تحملها شدة البغض على الوقوع
فيه ، ويحتمل أن تريد بالكفر كفران العشير ، إذ هو تقصير المرأة في حق الزوج "
انتهى باختصار من " فتح الباري " (9/399-400) .
على أننا ننبه السائلة هنا إلى أن ما جاء في السؤال من رغبة زوجها في الجماع أثناء
الحيض : لا يحل لها أن تطيعه في ذلك ، بل عليها أن تمتنع منه ، وتعرفه بأن ذلك حرام
؛ فإن لم ينته عن ذلك ، وتعدى حدود الله له في هذا الأمر : فهذا بمجرده سبب كاف
لتركه ومفارقته ، بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وإذا تكرر من الزوج
الوطء في الفرج ، ولم ينزجر : فُرِّق بينهما ، كما قلنا فيما إذا وطئها في الدبر
ولم ينزجر" انتهى من "الاختيارات الفقهية" ، للبعلي (27) .
تعليق