الحمد لله.
من المقرر أن الغناء المنتشر اليوم في أوساط ما يسمى بالمجال " الفني " منكر عظيم ، وفحش وخنا ، وشر مستطير ، لا يخفى فساده على كل ذي فطرة صحيحة ؛ إذ لم تَعُد حرمتها مقتصرة على اتخاذ " المعازف " فقط ، بل تعدت ذلك إلى كشف العورات ، والتجرد من الحياء ، وإثارة الشهوات ، والحط من قيمة الإنسان المكرم إلى أن يكون سلعة شهوانية حياتها وموتها العشق والغرام ، فكم أفسدت من قلوب ، وكم ضيعت من أموال ، وكم أفنت من أعمار ، وكم شغلت من مؤسسات ، وكم تاه في بحر أوهامها شباب كانوا جديرين بأن يكونوا معاول بناء وأركان حضارة ، وليسوا مجرد قاعدين على الطريق ، غاية أمانيهم أن يقابلوا المطربين والمطربات ، يلتمسون منهم التفاتة أو قبلة أو ابتسامة .
ولا ندري كيف سيكون كسب هؤلاء المطربين حلالا بعد ذلك ، وإذا لم يكن جَنْيُهُم حراما فما هو المال الحرام إذن ، ومتى يكون الكسب غير مشروع ؟!!
فالمال الحرام هو كل ما اكتسبه المرء بطريق غير مشروع ، سواء كانت حرمة طريق الكسب بسبب التعدي على ملك الآخرين بغير رضاهم ، أم بسبب التعدي على أحكام الشريعة والوقوع في المخالفة التي لم يأذن بها الله ، فمَن جعل " العمل المحرم " سبيلا للتكسب كان ماله محرما باتفاق العلماء .
يقول الدكتور عباس الباز وفقه الله :
" المالك ليس له أن يملك أو يتصرف إلا بما أذن به الشرع ، فكل فعل لم يأذن به الشرع فإن المالك لا يجوز أن يأذن به ؛ لأن إذن الشرع مقدم ، ويجب أن يتفق إذن المالك مع إذن الشرع ، فإن خالف إذن المالك إذن الشرع بطل إذنه وبقي إذن الشرع ، إذ هو الأساس في التملك والتصرف .
ولذلك فإن كل مال أتى عن طريق ممنوع لم يأذن به الشارع الحكيم...كان مالا محرما ، يحرم على المسلم حيازته أو اكتسابه " انتهى باختصار من " أحكام المال الحرام " (ص/48)
وقد دل على ما سبق : حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله
عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ( نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ ،
وَمَهْرِ الْبَغِىِّ ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ ) رواه البخاري (2282) ومسلم (1567)
فانظر كيف حرم في هذا الحديث المال المكتسب من جهتين : من جهة بيع المحرمات ، ومن
جهة التكسب بطريق غير مشروع ، كالبغاء والكهانة ، ويقاس عليها حرمة المال المكتسب
بسبب الغناء واتخاذ المعازف . انظر : " أحكام المال الحرام " (ص/67)
وقد أجمع العلماء من المذاهب الفقهية كافة على هذا
الحكم الشرعي :
قال الإمام النووي رحمه الله :
" أجمعوا على تحريم أجرة المغنية للغناء " انتهى من " شرح مسلم " (10/231)
وقال ابن عابدين رحمه الله : " من السحت ما يأخذه أصحاب المعازف ، ومنها – كما في " المجتبى " ما تأخذه المغنية على الغناء " انتهى من " رد المحتار على الدر المختار " (6/424)
وأما تصدق هؤلاء المطربين والمغنين على الفقراء
والمساكين ، وقيامهم ببعض المشاريع الخيرية ومشاركتهم بها : فلا يعني أن ينقلب
الخبيث من مالهم أو حالهم : حلالا طيبا ، بل مالهم خبيث ، وإن تصدقوا منه ، وحالهم
في الغناء وما ذكرنا خبيث ، حتى وإن صلوا وصاموا وتصدقوا وحجوا ما شاؤوا ، فإن هذا
لا يحل لهم عملهم المحرم ، ولا يجعله طيبا ؛ بل الأمر كما قال الله تعالى : (فَمَنْ
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
شَرًّا يَرَهُ ) الزلزلة/7-8 .
بل أخطر من ذلك عليهم : أن الله جل جلاله غني عن الكسب الخبيث أن ينفق في سبيله :
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ
تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلاَ يَصْعَدُ إِلَى اللَّهِ
إِلَّا الطَّيِّبُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا
لِصَاحِبِهِ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فُلُوَّهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ
) .
رواه البخاري (7430) ومسلم (1014) .
وفي لفظ للبخاري (1410) : ( وَلاَ يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ ) .
ولله در من قال :
سمعتك تبني مسجدا من خيانة *** وأنت بحمد الله غير موفق
كمُطعمة الزهاد من كد فرجها *** لكِ الويل ، لا تزني ، ولا تتصدقي
فالذي ينبغي أن ينصح به هؤلاء أن يسعوا إلى التوبة النصوح ، وتصحيح ما عليه من الحال والمقال ، أهم وأعظم من مجرد إنفاق هذه الأموال .
والله أعلم .
تعليق