الحمد لله.
اعلم ـ يا عبد الله ـ أن الله جل جلاله أرحم بعباده من الوالدة بولدها ، بل هو أرحم بهم من أنفسهم ، ولا يقدر أحد قدر رحمته إلا هو سبحانه ، ولو علم الكافر ما عند الله من الرحمة ، ما أيس منها أحد من خلقه . وهذا أمر محكم ، معلوم من دين الإسلام بالضرورة البديهية .
واعلم أيضا أن الله جل جلاله : ( اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) يونس/44، ( وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) ، وأن الله ليس في حاجة إلى تعذيب من يعذبه ، إن هو أطاعه واتبع هداه : ( مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا )
ومن تمام منة الله على عباده ، ورحمته بهم : أنه لم يكلفهم إلا ما يقدرون عليه ؛ فما حرم عليهم شيئا ، إلا وفي طاقتهم تركه والاستغناء عنه . ولا أوجب عليهم أمرا ، إلا وفي قدرتهم فعله والإتيان به ؛ قال تعالى : ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) البقرة/286 .
ولما نزل قول الله تعالى : ( لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وظنوا أنهم محاسبون ؛ أي : معذبون ، على مجرد خطرات النفس ، والوساوس التي لا يقدرون على دفعها ؛ فأنزل الله الآية التي ذكرناها أولا : ( لا يكلف الله نفسا .. ) بشارة لهم من الله بالتخفيف ، لما وطنوا أنفسهم على قبول ما جاءهم من عند الله ، والخضوع له ، والرضى به .
روى مسلم في صحيحه (125) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة: 284] ، قَالَ : فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللهِ، كُلِّفْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ، الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ، وَقَدِ اُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ : سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) .
قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ، ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي إِثْرِهَا: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة: 285] ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللهُ تَعَالَى، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : (لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) [البقرة: 286] " قَالَ : نَعَمْ (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) [البقرة: 286] " قَالَ : نَعَمْ (رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) [البقرة : 286] قَالَ: نَعَمْ (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة : 286] قَالَ : نَعَمْ ) .
وفي رواية لمسلم أيضا (126) : ( قال [أي: الله تعالى ] : قد فعلتُ ) .
فانظر يا عبد الله : كيف كان قبولهم لما جاءهم من عندهم ربهم ، ورضاهم به : سببا في التخفيف عليهم ، ورفع الأحمال والآصار عنهم .
وانظر كيف أن الله تعالى قد من على عباده ، فخفف عنهم ، ولم يحاسبهم على مجرد الخاطر والوسواس ، وحديث النفس العابر الذي لا يقدرون له دفعا .
وفي صحيح البخاري (5269) ومسلم (127) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ ) .
والحاصل :
أن وجود ميل ما إلى معصية مما حرم الله على عباده ، سواء كانت من الزنا أو غيره ، أو وجود نوع من الميل الشاذ ، ليس في حد ذاته إثما ، ولا هو موجب لعذاب الله ، ما لم يسترسل العبد مع ذلك الميل المحرم ، أو يعزم على فعله ، فإذا استرسل معه ، أو عزم على فعله ، أو تكلم به ، أو شرع في فعله : فقد فعل ما حرم الله عليه ، وما يقدر هو على ألا يفعله ، وهذا هو محل التكليف ، ومناط العذاب الذي توعد الله به العصاة، كما بين رسوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الماضي .
وأما من جاهد نفسه ، ومنعها من هواها ومشتهاها ، فهذا قد وعده الله جناته ورضوانه ، حتى ولو كانت تشتهي الذكران ، إما لغلبة طبع فاسد ، أو سبق معصية أثر في قلبه ألفها ، أو غير ذلك ؛ فهذا ممدوح مأجور على عمله ، معذور فيما عجز عنه ، ولم يقدر على دفعه ؛ قال ابن القيم رحمه الله ، في حال من تعفف ، وكظم ما يجد من عشقه وهواه ، لله :
"على أنه لا يدخل تحته حتى يصبر لله ، ويعف لله ، ويكتم لله ؛ وهذا لا يكون إلا مع قدرته على معشوقه وإيثار محبة الله وخوفه ورضاه ، وهذا أحق من دخل تحت قوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) النازعات/40-41 ، وتحت قوله : (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) ؛ فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا ممن آثر حبه على هواه ، وابتغى بذلك قربه ورضاه" انتهى من "الداء والدواء" (573) .
وبهذا يتبين أن الجريمة المنكرة ، والذنب الشائن الفظيع : هو الوقوع في اللواط ، وممارسة الشذوذ ، وأن الشروع في شيء من أسباب ذلك ، أو مقدماته : ذنب يلام عليه العبد ، ويأثم به ، وفي مقدوره تركه ، والتخلص منه .
وأما إن كان مجرد حديث نفس ، أو خطرة عابرة : فالعبد لا يلام على مجرد ذلك ، ولا يأثم به .
وإذا قدر أن شخصا ابتلي بشيء من الميل الزائد إلى النساء ، أو قدر من الشذوذ والميل إلى الرجال ، أو ثبت أن الجينات يمكن أن يكون فيها شيء من ذلك ، مما لا يستطيع المرء دفعه ولا التحكم به : فالمؤاخذة إنما تكون على القول والعمل ، لا على مجرد ذلك الذي لا يملكه الإنسان .
وينظر الأجوبة رقم : (101169) ، (20068) ، (27176) .
والله أعلم .
تعليق