الحمد لله.
الواجب على العبد أن يمتثل أمر الله تعالى ، ويوقن بأنه أحكم الحاكمين ، جل علا ، لا رادّ لأمره ، ولا معقب لحكمه ، وأحكامه كلها فيها الحكمة والخير والمصلحة (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) المائدة/50 ، لأنه سبحانه الخالق لعباده ، فهو أعلم بما يصلحهم ، وهو سبحانه غني عن عباده ، منزه عن الظلم ، رحيم بالخلق ، ومن كان كذلك كانت أحكامه في غاية العدل والحكمة والرحمة .
والعبد قد يعلم الحكمة من الأمر والنهي ، وقد يجهل ذلك ، لكنه مأمور بالامتثال في جميع الأحوال ، لأن هذا شأن العبد الضعيف المملوك ، مع الرب القادر المالك ، فإذا نازع خالقه في الحكمة ، خرج عن حد الإيمان والعبودية ، كما قال تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ) الأحزاب/36 ، وقال سبحانه : ( فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) النساء/65 .
ولا يُمنع العبد من السؤال والبحث عن الحكمة ليزداد إيمانه ويقينه .
ومن تأمل مسألة الطلاق أيقن برحمة الله وحكمته ، فإن
الطلاق فيه كسر للمرأة وإيذاء لها ، ولهذا شدد فيه الشارع وضيق أمره حتى لا يتساهل
الناس فيه .
ولو كان الزوج كلما طلق امرأته أمكنه أن يعقد عليها ويراجعها ، لطلق الزوج امرأته
عشرات المرات ، وفي كل مرة يؤذيها ويكسر قلبها ، ثم يتدخل أهل الصلح بينهما أو تشفق
المرأة على أولادها فتعود إلى زوجها ، وفي ذلك ظلم ظاهر لها .
فإذا علم الزوج أن الطلقة الثالثة تُبين زوجته منه ، بحيث لا يمكنه العودة إليها
إلا بعد زواجها من آخر يموت عنها أو يطلقها وقد لا يموت ولا يطلق ، كان متهيبا من
الطلاق ، مبتعدا عنه ، لا يقدم عليه إلا عند الضرورة أو الحاجة الماسة . وفي هذا
رحمة بالزوجة ، وحفظ للأسرة ، ومنع من التساهل والتلاعب .
وهناك حكمة أخرى ، وهي أن الرجل ربما تسرع فطلق المرة
الأولى ، ثم ندم فراجع زوجته ، فإذا طلق الثانية كان ذلك عن بصيرة ومعرفة ، فإذا
طلق الثالثة كان ذلك – في الغالب- دليلا على عدم استقامة الحياة بينهما ، فلا وجه
للتمادي في هذه الحياة التعسة ، ولعل في فراقهما فسحة ورحمة لكل منهما ، كما قال
تعالى : ( وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ
اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ) النساء/130
ومن كلام أهل العلم في حكمة جعل الطلاق ثلاثا :
قال الطاهور بن عاشور رحمه الله :
"وحكمة هذا التشريع العظيم : ردع الأزواج عن الاستخفاف بحقوق أزواجهم ، وجعلهن
لُعباً في بيوتهم ، فجعل للزوج الطلقة الأولى هفوة ، والثانية تجربة ، والثالثة
فراقاً ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث موسى والخضر : (فَكَانَتْ
الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَاناً ، وَالثَّانِيَة شَرْطاً والثَّالثَةُ عَمْداً ،
فَلذلك قال له الخضر في الثالثة : (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنك) الكهف/78"
انتهى من "التحرير والتنوير" (2/415) .
وقال ابن الهمام الحنفي رحمه الله : " لأن النفس كذوبة ربما تظهر عدم الحاجة إليها أو الحاجة إلى تركها وتسوّله ، فإذا وقع حصل الندم وضاق الصدر به وعيل الصبر ، فشرعه سبحانه وتعالى ثلاثاً ليجرب نفسه في المرة الأولى ، فإن كان الواقع صدقها استمر حتى تنقضي العدة وإلا أمكنه التدارك بالرجعة ، ثم إذا عادت النفس إلى مثل الأول وغلبته حتى عاد إلى طلاقها نظر أيضا فيما يحدث له ، فما يوقع الثالثة إلا وقد جرب وفَقُهَ في حال نفسه ، وبعد الثلاث تبلى الأعذار" انتهى من "شرح فتح القدير" (3/465) .
والله أعلم .
تعليق