الحمد لله.
مَن كان يقيم في بلد لا يستطيع إظهار شعائر دينه أو يخشى على نفسه من الفتنة في دينه ، ويتيسر له الذهاب إلى بلد آخر يستطيع إظهار شعائر دينه ويأمن فيه من الفتنة : وجب عليه الانتقال إليه ، ولا يحل له البقاء في بلده الذي يقيم فيه ؛ قال تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا . إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا . فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا . وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) النساء/ 97 - 100 .
قال القرطبي – رحمه الله - : " وفي هذه الآية دليل على هجران الأرض التي يُعمل فيها بالمعاصي ، وقال سعيد بن جبير : إذا عُمل بالمعاصي في أرض فاخرج منها ، وتلا ( أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ) " . انتهى من " تفسير القرطبي " ( 5 / 346 ، 347 ) .
والهجرة من البلاد التي يخاف المسلم فيها على دينه لا تزال مستمرة ، وستبقى إلى قيام الساعة .
عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ ( لاَ تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ وَلاَ تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ) .
رواه أبو داود ( 2479 ) وصححه الألباني في " صحيح أبي داود " .
قال أبو الحسن المباركفوري – رحمه الله - : " وقال الطِّيبي : لم يُرد بها الهجرة من مكة إلى المدينة ؛ لأنها انقطعت ، ولا الهجرة من الذنوب والخطايا كما ورد ( المهاجر من هجر الذنوب والخطايا ) ؛ لأنها عين التوبة ، فليزم التكرار ، فيجب أن يُحمل على الهجرة من مقام لا يتمكن فيه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة حدود الله ، فتدبر " . انتهى من " مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح " ( 8 / 48 ) .
وينطبق عليك – أخي السائل - فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية فِي " ماردين " - وهي بلدة إسلامية تقع فِي جنوب شرق " تركيا " كانت تُحكم بالإسلام ثم حكمهم التتار بغير الإسلام – حيث سئل – رحمه الله - فِي بلدة " ماردين " هل يجب على المسلم المقيم بِها الهجرة إلَى بلاد الإسلام أم لا ؟ وإذا وجبت عليه الهجرة ولَمْ يهاجر وساعد أعداء المسلمين بنفسه أو ماله هل يأثم فِي ذلك ؟ .
فأجاب :
، دماء المسلمين وأموالهم مُحرمة حيث كانوا فِي " ماردين " أو غيرها ، وإعانة الخارجين عن شريعة دين الإسلام مُحرمة ، سواء كانوا أهل " ماردين أو غيرهم " ، والمقيم بِها إن كان عاجزاً عن إقامة دينه : وجبت الهجرة عليه ، وإلا استحبت ولَمْ تَجب ... .
" مجموع الفتاوى " ( 28 / 240 ) مختصراً .
وقد ثبت في السيرة النبوية الشريفة أمْر النبي صلى الله عليه وسلم لطائفة من أصحابه بالهجرة إلى " الحبشة " ، كما هاجرت طائفة أخرى من أصحابه إلى المدينة النبوية تاركين خير بقاع الأرض وهي مكة المكرمة لما اشتدَّ عليهم المشركون بالعذاب وخافوا على دينهم ، ولا فرق في الشرع المطهر بين بلد وأخرى من حيث المنع من البقاء فيه لمن خاف على دينه أو نفسه من الفتنة إذا كان يتيسر له الذهاب إلى بلد آخر أفضل منه لدينه ، ومن لا يتيسر له مغادرة بلده أو لا يتيسر له بلد آخر أفضل منه : فليتق الله ربَّه ، وليجاهد نفسه وهواه ، وليحرص على الصحبة الصالحة التي تعينه على التمسك بدينه والإعانة على طاعة ربه .
وفي كثير من الأحيان قد يتعين على المسلم البقاء لحماية عرضه وأهله وعدم تركهم لقمة سائغة لشياطين الجن والإنس ، وخاصة إذا أمكنه مقاومة الفتنة والشهوة بمزيد من الطاعة ومزيد من المشقة في حفظ النفس من الشهوة المحرمة بالزواج الحلال .
فعليك – أخي السائل- أن تعيد حساباتك مع نفسك ، وأن تشاور العقلاء من أهل بيتك ، وزن الأمور بالقسطاس المستقيم ، ولا تغلِّب جانب هوى النفس وحب الذات على الحق والصواب والعدل من القرار الذي ستتخذه ، ورأس مالك هو دينك فإن كان لا يمكنك المحافظة عليه إلا بالانتقال إلى بلد يكون فيه ذلك : فافعله ، وإن أمكنك المحافظة عليه وأنت في بلدك وبين أهلك : فلا تفرط في ذلك ، والله يسددك ويرعاك .
ونسأل الله تعالى أن يحفظ عليك دينك ، وأن يفرِّج عن إخواننا في فلسطين ، وأن يُخرج منها المغتصبين خائبين ذليلين عاجلاً غير آجل .
تعليق