الحمد لله.
من رحمة الله تعالى أنه لا يحاسب العبد على الوساوس والخواطر ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ ) روى البخاري (5269) ومسلم (127).
فالمريض بالاكتئاب وغيره ، إذا حدث نفسه بالكفر أو بالمعصية ، لم يؤاخذ على ذلك ، لكن بشرط ألا ينطق ذلك بلسانه ، أو يعمل بمقتضاه بجوارحه .
ولو فرض أن هذا المريض تلفظ بما في نفسه تحت ضغط المرض أو الوسوسة ، بحيث كان مغلوبا على أمره ، وخرج منه ذلك الكلام بدون قصده ، فإنه لا يؤاخذ كذلك ، لعدم إرادته التلفظ.
وقد بوب البخاري في صحيحه : بَاب الطَّلَاقِ فِي الْإِغْلَاقِ وَالْكُرْهِ وَالسَّكْرَانِ وَالْمَجْنُونِ وَأَمْرِهِمَا وَالْغَلَطِ وَالنِّسْيَانِ فِي الطَّلَاقِ وَالشِّرْكِ وَغَيْرِهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى وَتَلَا الشَّعْبِيُّ لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْ إِقْرَارِ الْمُوَسْوِسِ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّذِي أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ أَبِكَ جُنُونٌ وَقَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ لَا يَجُوزُ طَلَاقُ الْمُوَسْوِسِ " انتهى مختصرا .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " المبتلى بالوسواس لا يقع طلاقه حتى لو تلفظ به بلسانه إذا لم يكن عن قصد ، لأن هذا اللفظ باللسان يقع من الموسوس من غير قصد ولا إرادة ، بل هو مغلق عليه ومكره عليه لقوة الدافع وقلة المانع ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا طلاق في إغلاق " . فلا يقع منه طلاق إذا لم يرده إرادة حقيقية بطمأنينة ، فهذا الشيء الذي يكون مرغما عليه بغير قصد ولا اختيار فإنه لا يقع به طلاق " انتهى ، نقلا عن : "فتاوى إسلامية" (3/277).
فهذا التعليل الذي أورده الشيخ رحمه الله يفيد في مسألة المصاب بالاكتئاب ، فإذا تلفظ بشيء وهو مغلق عليه ، دون قصد واختيار ، لم يؤاخذ به .
لكن ينبغي أن يسعى المبتلى بذلك للعلاج والتخلص من الهم والقلق والضيق ، وأن يتأمل في نعم الله تعالى عليه ، ليستقر الشكر في قلبه ، ويثبت الرضا بقضائه ، وينجو من السخط على مولاه ، وما من عبد إلا ولله عليه ما لا يحصى من النعم ، في دينه ، وبدنه ، وأهله ، وغير ذلك .
وأما إن كان يدري ما يقول ،
ويقصده ، لكنه ظن أن ذلك سوف يريحه ، أو تساهل في بعض القول ، ولهذا جاء الوعيد
الشديد في حق النائحة ، مع أنها تكون عادة في حالة حزن شديد ، وحذر النبي صلى الله
عليه وسلم من النطق بما يغضب الله سبحانه في حال المصيبة ؛ فقال صلى الله عليه وسلم
لما توفي ابنه إبراهيم : ( إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلَا
نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا ) رواه البخاري (1303) ومسلم (2315) .
وفي رواية لابن ماجة (1589) : ( وَلَا نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ ) .
ثم ليعلم أن التسخط لا يفيده ، ولا يرفع البلاء عنه ، بل يفيده الصبر واحتساب الأجر
، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ
وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا
وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ ) الترمذي أيضا (2396) وابن ماجه (4031) وصححه
الألباني في صحيح الترمذي .
وينظر للفائدة : سؤال رقم : (118325)
والله أعلم .
تعليق