الحمد لله.
مسألة الهم بالمعصية الواردة في سؤالكِ دليلها قَوْله تَعَالَى : ( إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) الحج/ 25 ، والجواب عنها :
1. أن الوعيد المتعلق بالهم بالمعصية هو في حرم مكة المكرمة وليس في المدينة .
قال ابن القيم – رحمه الله - :
والمسجد الحرام هنا : المراد به الحرم كُلُّهُ .
" زاد المعاد في هدي خير العباد " ( 3 / 434 ) .
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله - :
من همَّ بالإلحاد في الحرم المكي : فهو متوعَّد بالعذاب الأليم .
" مجموع فتاوى الشيخ ابن باز " ( 16 / 135 ) .
2. أن الوعيد المتعلق بالهم بالمعصية في مكة المكرمة له ثلاث صور :
أ. أن يكون الهامُّ بالمعصية في أي مكان في الأرض ليفعلها في الحرم المكي ، قال الضَّحَّاك رحمه الله : " إنَّ الرجل ليهِمُّ بالخطيئة بمكّة وهو بأرض أخرى فتكُتب عليه ولم يعملها " ، وسيأتي مثله عن ابن مسعود رضي الله عنه قريباً .
ب. من همَّ بالمعصية في الحرم ولو فعلها خارج الحرم .
ج. وأعظم الصور إثماً أن يكون الهم وفعل المعصية كلاهما في الحرم المكي .
3. بعض العلماء يرى أن المقصود بقوله تعالى : (يُرِد) أي : يعمل ، وقيل : هو العزم المصمم ، وقيل : حديث النفس ، وهو القول الأقرب للصواب .
قال ابن القيم – رحمه الله - :
ومن هذا قوله تعالى : ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ ) الحج/ 25 ، وفعل الإرادة لا يتعدى بالباء ولكن ضُمِّن معنى " يهم " فيه بكذا ، وهو أبلغ من الإرادة ، فكان في ذكر الباء إشارة إلى استحقاق العذاب عند الإرادة وإن لم تكن جازمة .
" بدائع الفوائد " ( 2 / 259 ) .
4. ومعنى " الإلحاد " : الميل عن الحق ، ومعنى " الظلم " في الآية : كل مخالفة للشرع ، ويشمل ذلك الشرك والبدعة والذنوب كالقتل ، وهو ما يرجحه الطبري والشنقيطي رحمهما الله .
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله - :
"الذي يظهر في هذه المسألة : أن كل مخالفة بترك واجب أو فعل محرم : تدخل في الظلم المذكور ، وأما الجائز كعتاب الرجل امرأته أو عبده : فليس من الإلحاد ، ولا من الظلم .
قال بعض أهل العلم : من همَّ أن يعمل سيئة في مكة : أذاقه الله العذاب الأليم بسبب همِّه بذلك ، وإن لم يفعلها ، بخلاف غير الحرم المكي من البقاع فلا يعاقب فيه بالهم ، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : " لو أن رجلاً أراد بإلحاد فيه بظلم وهو بِعَدَنٍ أَبْيَن لأذاقه الله من العذاب الأليم " ، وهذا ثابت عن ابن مسعود ، ووقفه عليه أصح من رفعه ، والذين قالوا هذا القول استدلوا له بظاهر قوله تعالى : ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) لأنه تعالى رتَّب إذاقة العذاب الأليم على إرادة الإلحاد بالظلم فيه ترتيب الجزاء على شرطه ، ويؤيد هذا قول بعض أهل العلم إن الباء في قوله ( بإلحاد ) لأجل أن الإرادة مضمنة معنى الهمِّ ، أي : ومن يهم فيه بإلحاد ، وعلى هذا الذي قاله ابن مسعود وغيره .
فهذه الآية الكريمة مخصِّصة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : ( ومن همَّ بسيئة فلم يعملها كُتبت له حسنة ) الحديث ، وعليه : فهذا التخصيص لشدة التغليظ في المخالفة في الحرم المكي ، ووجه هذا ظاهر .
ويحتمل أن يكون معنى الإرادة في قوله ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ ) العزم المصمم على ارتكاب الذنب فيه ، والعزم المصمم على الذنب ذنب يعاقب عليه في جميع بقاع الله مكة وغيرها .
والدليل على أن إرادة الذنب إذا كانت عزماً مصمماً عليه أنها كارتكابه : حديث أبي بكرة رضي الله عنه الثابت في الصحيح : (إذا الْتقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) قالوا : يا رسول الله ، قد عرفنا القاتل فما بال المقتول ؟ قال (إنه كان حريصاً على قتل صاحبه) فقولهم : ما بال المقتول ؟ : سؤال عن تشخيص عين الذنب الذي دخل بسببه النار مع أنه لم يفعل القتل ، فبيَّن النَّبي صلى الله عليه وسلم بقوله ( إنه كان حريصاً على قتل صاحبه ) أن ذنبه الذي أدخله النار : هو عزمه المصمم وحرصه على قتل صاحبه المسلم ، وقد قدمنا مراراً أنَّ " إنَّ " المكسورة المشددة : تدل على التعليل ، كما تقرر في مسلك الإيماء والتنبيه .
ومثال المعاقبة على العزم المصمم على ارتكاب المحظور فيه : ما وقع بأصحاب الفيل من الإهلاك المستأصل بسبب طير أبابيل ( تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ) لعزمهم على ارتكاب المنكر في الحرم ، فأهلكهم الله بذلك العزم قبل أن يفعلوا ما عزموا عليه .
والعلم عند الله تعالى .
والظاهر أن الضمير في قوله ( فِيهِ ) راجع إلى المسجد الحرام ، ولكن حكم الحرم كله في تغليظ الذنب المذكور كذلك ، والله تعالى أعلم" انتهى .
" أضواء البيان " ( 4 / 294 ، 295 ) .
والله أعلم
تعليق