الحمد لله.
أولاً:
مقام الصحابة مقام رفيع مَصون الجانب ، معظم الشأن ، قد ورد بفضلهم القرآن وجاءت السنة المطهرة بذلك واتفق علماء الإسلام على تبجيلهم وتعظيمهم ، ودحر شبه الروافض الذين افتروا وكذبوا عليهم ، وحرَّفوا معاني الآيات ، فساء فهمهم لها نتيجة لسوء ظنهم بهم .
ثم إن صدر الخطأ من بعضهم ، فإنا نحبهم ونبجلهم ولا يدخل في قلوبنا دخن عليهم ولا نشهر هذا الخطأ بل نسكت عنه لما بذلوا للدين وقدموا له .
وهم ليسوا معصومين عن الصغائر ولا عن الكبائر لكنهم أسرع الناس رجوعا إلى الله وتوبة وإنابة إليه .
غير أن من حصلت منه الردة ممن كان بينهم ، فإنه يحرم من شرف الصحبة ، كما حرم من شرف الإسلام ؛ إلا أن يتوب الله عليه ، ويراجع دينه .
أما العشرة المبشرون بالجنة
، وكذلك أهل بيعة الشجرة فهم معصومون عن الردة قطعا لصريح القرآن وصريح السنَّة ؛
فقد بشَّر النبي صلى الله عليه العشرة المبشرين بالجنة ، وردتهم تنافي هذه البشارة
، وكذلك أهل بيعة الشجرة فإنَّ كلام الله تعالى فيهم ظاهر في ذلك ، قال تعالى : (
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ
فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ
فَتْحًا قَرِيبًا ) الفتح/ 18 .
قال الطبري – رحمه الله - : " وقوله ( فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ) يقول تعالى
ذكره : فعلم ربك يا محمد ما في قلوب المؤمنين من أصحابك إذ يبايعونك تحت الشجرة ،
من صدق النية والوفاء بما يبايعونك عليه والصبر معك ( فَأَنزلَ السَّكِينَةَ
عَلَيْهِمْ ) يقول : فأنزل الطمأنينة والثبات على ما هم عليه من دينهم وحُسن
بصيرتهم بالحقّ الذي هداهم الله له " انتهى من " تفسير الطبري " ( 22 / 227 ) .
وقال ابن حزم – رحمه الله - : " فمن أخبرنا الله عز وجل أنه علم ما في قلوبهم ورضي
الله عنهم وأنزل السكينة عليهم ، فلا يحل لأحد التوقف في أمرهم ولا الشك فيهم البتة
" انتهى من " الفِصَل في الملل والأهواء والنَّحَل " ( 4 / 116 ) .
وقد روى البخاري ( 3923 ) ومسلم ( 1856 ) عن عَمْرو بن دينار قال : " سَمِعْتُ
جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ لَنَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ ( أَنْتُمْ
خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ ) .
وروى الترمذي (3860) عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( لَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ مِمَّنْ
بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ) قَالَ الترمذي : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وصححه الألباني في " صحيح الجامع " برقم (2795) .
ثانياً :
المؤلف لم يقصد وقوع العشرة المبشرين ، أو أحد من أهل بيعة الشجرة في تلك المعاصي
كلها ، أو حتى في بعضها ، وإنما كان يقصد وقوع هذه المعاصي من مجموع الصحابة رضي
الله عنهم ، ومن وقع منهم في معصية فقد طهَّره الله منها ، إما بحد أقيم عليه ، أو
توبة من صاحبها .
قال الذهبي رحمه الله في
كلامه على مسطح بن أثاثة ، وما جرى منه في حادثة الإفك - : " إياك يا جري ، أن تنظر
إلى هذا البدري شزراً ، لهفوة بدت منه ، فإنها قد غفرت ، وهو من أهل الجنة " انتهى
من " سير أعلام النبلاء " ( 1 / 188 ) .
ومعنى جري : جريء .
وأما المغيرة بن شعبة رضي الله عنه - وهو أحد من شهد بيعة الرضوان - فلم يثبت تلبسه بالزنى ، بل قد حدَّ عمر بن الخطاب من شهد عليه بذلك ، وانظر جواب السؤال رقم ( 120030 ) .
وأما شرب الخمر فقد صدر من
بعض الصحابة على أشكال : فمنهم من كان متأولاً ، ومنهم من كان جاهلاً ، ومنهم من
غلبته نفسه فحده رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الخلفاء من بعده .
فقد شربها أبو محجن الثقفي وقصته في القادسية مع سعد ابن أبي وقاص مشهورة ثم تركها
وتاب وأناب ، كما في " الإصابة " لابن حجر ( 3 / 361 ) .
وشربها قدامة بن مظعون - وهو بدري - متأولاً ، ونعيمان بن عمرو الأنصاري - وهو بدري
-.
قال الذهبي – رحمه الله - : " قدامة بن مظعون أبو عمرو الجمحي من السابقين البدريين
، ولي إمرة البحرين لعمر ، وهو من أخوال أم المؤمنين حفصة وابن عمر ، وزوج عمتها
صفية بنت الخطاب إحدى المهاجرات .
ولقدامة هجرة إلى الحبشة ، وقد شرب مرة الخمرة متأولاً ، مستدلا بقوله تعالى : (
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا
) – المائدة/ 93 - ، فحدَّه عمر ، وعزله من البحرين.
قال أيوب السختياني : لم يحدَّ بدري في الخمر سواه .
قلت : بلى ، ونعيمان بن عمرو الأنصاري النجاري ، صاحب المزاح " انتهى من " سير
أعلام النبلاء " ( 1 / 161 ، 162 ) .
ثالثاً:
وقد حدث قتال بين الصحابة في فتنة " صفِّين " وحادثة " الجمل " وقاتل بعضهم بعضا ،
وكان منهم أحد العشرة المبشرين بالجنة ، وكان منهم رجال من أهل بيعة الرضوان ،
فقاتل طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام مع عائشة رضي الله عنها وكلهم كانوا
متأولين للخير اجتهدوا فأخطئوا كما تجده في " سير أعلام النبلاء " ( 2 / 193 ) .
قال شيخ الإسلام بن تيمية – رحمه الله - : " بل نشهد أن العشرة في الجنة وأن أهل
بيعة الرضوان في الجنة وأن أهل بدر في الجنة كما ثبت الخبر بذلك عن الصادق المصدوق
الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، وقد دخل في الفتنة خلق من هؤلاء
المشهود لهم بالجنة ، والذي قتل عمار بن ياسر هو أبو الغادية ، وقد قيل إنه من أهل
بيعة الرضوان ذكر ذلك ابن حزم .
فنحن نشهد لعمار بالجنة ، ولقاتله إن كان من أهل بيعة الرضوان بالجنة ، وأما عثمان
وعلي وطلحة والزبير فهم أجلّ قدراً من غيرهم ، ولو كان منهم ما كان ، فنحن لا نشهد
أن الواحد من هؤلاء لا يذنب ؛ بل الذي نشهد به أن الواحد من هؤلاء إذا أذنب : فإن
الله لا يعذبه في الآخرة ، ولا يدخله النار ، بل يدخله الجنة بلا ريب ، وعقوبة
الآخرة تزول عنه : إما بتوبة منه ، وأما بحسناته الكثيرة ، وإما بمصائبه المكفرة ،
وإما بغير ذلك كما قد بسطناه في موضعه " انتهى من " منهاج السنة " ( 6 / 227 ) .
وقال ابن حجر – رحمه الله - : " والظن بالصحابة في تلك الحروب أنهم كانوا فيها
متأولين ، وللمجتهد المخطئ أجر ، وإذا ثبت هذا في حق آحاد الناس ، فثبوته للصحابة
بالطريق الأولى " انتهى من " الإصابة " ( 7 / 312 ) .
رابعاً:
كل ما سبق لا ينافي تعظيمهم وعدالتهم ؛ فهم بشر وليسوا معصومين عن الذنوب ، وقد
تبين أن كون الصحابي من أهل بيعة الرضوان ، أو من أهل بدر ، لا ينافي تلبسه بذنب من
تلك الذنوب ، مع اليقين التام بأن الله قد غفر لهم ، وحسن الظن الكامل أنهم تابوا
إلى الله وأنابوا .
والله أعلم .
تعليق