الحمد لله.
أولا :
المعتبر في الشهادة أن يكون الشاهد محل تصديق بريئا من التهمة ، قال تعالى : ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ ) البقرة/ 282.
ثانياً :
ذهب جمهور العلماء إلى أن شهادة الولد لوالده أو الوالد لولده غير مقبولة ؛ لوجود التهمة واحتمال محاباته له.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْوَالِدِ وَشَهَادَةَ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ لَا تُقْبَلُ " انتهى من "مجموع الفتاوى" (15/ 86) .
وقال الشوكاني رحمه الله :
" اخْتُلِفَ فِي شَهَادَةِ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَالْعَكْسُ فَمَنَعَ مِنْ ذَلِكَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ وَعَلَّلُوا بِالتُّهْمَةِ فَكَانَ كَالْقَانِعِ ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَشُرَيْحٌ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْعِتْرَةُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلٍ لَهُ: إنَّهَا تُقْبَلُ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: ( ذَوَيْ عَدْلٍ) ، وَهَكَذَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي شَهَادَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لَلْآخَرِ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقَرَابَةَ وَالزَّوْجِيَّةَ مَظِنَّةٌ لَلتُّهْمَةِ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِمَا الْمُحَابَاةُ " انتهى من"نيل الأوطار" (8/ 336) .
ثالثاً :
ذهب بعض العلماء إلى قبول شهادة الولد لوالده والعكس إذا انتفت التهمة .
قال ابن القيم رحمه الله :
" الشَّهَادَةُ تُرَدُّ بِالتُّهْمَةِ، وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهَا لَا تُرَدُّ بِالْقَرَابَةِ كَمَا لَا تُرَدُّ بِالْوَلَاءِ، وَإِنَّمَا تُرَدُّ بِتُهْمَتِهَا، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ كَمَا تَقَدَّمَ.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ: تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، وَالْوَلَدُ لِوَالِدِهِ، وَالْأَخُ لِأَخِيهِ، إذَا كَانُوا عُدُولًا، لَمْ يَقُلْ اللَّهُ حِينَ قَالَ: (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ) البقرة/ 282 : إلَّا وَالِدًا وَوَلَدًا وَأَخًا ، هَذَا لَفْظُهُ ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رِوَايَتَانِ ، بَلْ إنَّمَا مَنَعَ مِنْ شَهَادَةِ الْمُتَّهَمِ فِي قَرَابَتِهِ وَوَلَائِهِ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: لَمْ تَزَلْ قُضَاةُ الْإِسْلَامِ عَلَى هَذَا .
وَإِنَّمَا قُبِلَ قَوْلُ الشَّاهِدِ لِظَنِّ صِدْقِهِ، فَإِذَا كَانَ مُتَّهَمًا عَارَضَتْ التُّهْمَةُ الظَّنَّ، فَبَقِيَتْ الْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ لَيْسَ لَهَا مُعَارِضٌ مُقَاوِمٌ " انتهى من "إعلام الموقعين" (1/ 99) .
وقال الحجاوي رحمه الله في الزاد (ص: 242) :
" لا تقبل شهادة عمودي النسب بعضهم لبعض ولا شهادة أحد الزوجين لصاحبه وتقبل عليهم "
قال ابن عثيمين ما ملخصه :
" يريد بعمودي النسب الأصول والفروع ، هؤلاء لا تقبل شهادة بعضهم لبعض وإن كانوا عدولاً، فلو شهد أب لابنه لم تقبل شهادته ، أو ابن لأبيه لم تقبل شهادته ، أو شهد ولد لأمه لم تقبل شهادته ، أو أم لولدها لم تقبل شهادتها ، المهم أن هذا مانع ، فما الدليل على كونه مانعاً ؟
الدليل قوة التهمة ؛ لأن الإنسان متهم إذا شهد لأصله ، أو شهد لفرعه ، فإذا كان متهماً فإن ذلك يمنع من قبول شهادته لاحتمال أن يكون قد حابى أصوله أو فروعه ، فلا نقبل الشهادة حتى لو كان الأب من أعدل عباد الله ، أو الابن من أعدل عباد الله ؛ لأن كونه في هذه المرتبة من العدالة أمر نادر ، والنادر لا حكم له ، فالعبرة بالأغلب ، والأغلب أن الإنسان تلحقه التهمة فيما إذا شهد لأصوله أو فروعه ، ولا سيما في عصرنا الحاضر الذي غلبت فيه العاطفة على جانب العقل والدين عند كثير من الناس.
وهناك قول آخر في المسألة: أنها تقبل شهادة الأصول لفروعهم ، والفروع لأصولهم إذا انتفت التهمة، وأن العبرة في كل قضية بعينها .
فنقول: إذا كان هذا الأب مبرَّزاً في العدالة، لا يمكن أن يشهد لابنه إلا بشيء هو الواقع ، ونعلم هذا من حاله ، فنقول: هذا الرجل ذو عدل في هذه الشهادة ؛ لأنه غير متهم ، فننظر إلى كل قضية بعينها، لا سيما إذا وجدت قرائن تؤيد ما شهدوا به فإن هذا يكون نوراً على نور، فعلى هذا القول نقول: هل الأصل القبول أو الأصل المنع ؟ إذا قلنا: الأصل القبول صرنا لا نرد شهادتهم حتى نعلم التهمة ، وإذا قلنا: الأصل المنع صرنا نمنع شهادتهم حتى توجد قرينة قوية، وهي بروزه في العدالة بحيث لا يشهد إلا بما هو حق ، والظاهر أن الأصل التهمة لا سيما في زمننا هذا، وبناءً على ذلك نقول: إذا ثبت أنه مبرز في العدالة ، وأنه لا يمكن أن يشهد إلا بحق فحينئذٍ تقبل الشهادة " .
انتهى من "الشرح الممتع" (15/ 435-437) .
وقال الشوكاني رحمه الله :
" فَمَنْ كَانَ مَعْرُوفًا مِنْ الْقَرَابَةِ وَنَحْوِهِمْ بِمَتَانَةِ الدِّينِ الْبَالِغَةِ إلَى حَدٍّ لَا يُؤَثِّرُ مَعَهَا مَحَبَّةُ الْقَرَابَةِ فَقَدْ زَالَتْ حِينَئِذٍ مَظِنَّةُ التُّهْمَةِ وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ، فَالْوَاجِبُ عَدَمُ الْقَبُولِ لِشَهَادَتِهِ لِأَنَّهُ مَظِنَّةٌ لِلتُّهْمَةِ " .
انتهى من "نيل الأوطار" (8/ 336) .
والخلاصة :
- أن شهادة الولد لوالده أو العكس مظنة التهمة في الغالب وخاصة في هذا الزمان فلا تقبل ؛ إذ الحكم للغالب ، وقد قَالَ الزُّهْرِيِّ : " لَمْ يَكُنْ يَتَّهِمُ سَلَفُ الْمُسْلِمِينَ الصَّالِحَ فِي شَهَادَةِ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، وَلَا الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ، وَلَا الْأَخِ لِأَخِيهِ، وَلَا الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ، ثُمَّ دَخَلَ النَّاسُ بَعْدَ ذَلِكَ فَظَهَرَتْ مِنْهُمْ أُمُورٌ حَمَلَتْ الْوُلَاةَ عَلَى اتِّهَامِهِمْ ، فَتَرَكَتْ شَهَادَةَ مَنْ يُتَّهَمُ إذَا كَانَتْ مِنْ قَرَابَةٍ ، وَصَارَ ذَلِكَ مِنْ الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ وَالْأَخِ وَالزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ، لَمْ يَتَّهِمْ إلَّا هَؤُلَاءِ فِي آخَرِ الزَّمَانِ " انتهى من "إعلام الموقعين" (1/ 89) .
- إلا إذا كان الشاهد منهما مبرَّزا في العدالة معروفا بها لدى عموم الناس وخصوصهم ، ووُجد من القرائن ما يؤيد عدالته وصدق شهادته ، فحينئذ تقبل شهادته .
وراجع للاستزادة إجابة السؤال رقم (118856) .
والله أعلم .
تعليق