الحمد لله.
أولاً :
الأصل في النهي أنه يقتضي التحريم ، وهذا مذهب جمهور العلماء .
قال الإمام الشافعي رحمه الله : " أَصْلُ النَّهْيِ من رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّ كُلَّ ما نهى عنه ، فَهُوَ مُحَرَّمٌ حتى تَأْتِيَ عنه دَلَالَةٌ تَدُلُّ على أَنَّهُ إنَّمَا نهى عنه لِمَعْنًى غَيْرِ التَّحْرِيمِ إمَّا أَرَادَ بِهِ نَهْيًا عن بَعْضِ الْأُمُورِ دُونَ بَعْضٍ ، وَإِمَّا أَرَادَ بِهِ النَّهْيَ لِلتَّنْزِيهِ عن الْمَنْهِيِّ وَالْأَدَبِ وَالِاخْتِيَارِ " انتهى من " كتاب الأم للشافعي " .
وقال ابن عبد البر رحمه الله : " وفيه : أن النهي من قبل الله إذا ورد فحكمه التحريم ، إلا أن يزيحه عن ذلك دليل يبين المراد منه ، ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أما علمت أن الله حرمها . ثم قال : إن الذي حرم شربها حرم بيعها ) فأطلق عن الله تحريمها " انتهى من " التمهيد " ( 4 / 141 ) .
وقد سئل الشيخ ابن باز رحمه
الله :
" جاء في بعض الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن عمل كذا من الأعمال
، فهل النهي هو التحريم ، أو أن النهي يعني الكراهية ؟ "
فأجاب رحمه الله :
" الأصل أن النهي للتحريم ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( فما نهيتكم عنه
فاجتنبوه ... الحديث ) ، فلا ينقل عن التحريم من الكراهة إلا بدليل يدل على ذلك " .
انتهى مختصرا بتصرف يسير من " فتاوى نور على الدرب " .
http://www.binbaz.org.sa/mat/19445
ثانياً :
قد يرد النهي في بعض النصوص ، فيحمله أهل العلم على الكراهة ؛ وذلك لوجود صارفٍ
يصرف ذلك النهي من التحريم إلى الكراهة ، ومن تلك الصوارف :
أ . أن يعارض قوله فعله عليه الصلاة والسلام .
فإذا نهى عن شيء عليه الصلاة والسلام ، ثم فعل ذلك المنهي عنه دل ذلك على أن النهي
للكراهة .
قال الشيخ ابن باز رحمه الله : " الأصل في النهي هو التحريم ، ولا ينقل عن التحريم
من الكراهة إلا بدليل يدل على ذلك ، فإذا نهى عن شيء ثم فعله دل على أن النهي
للكراهة ، مثلما نهى عن الشرب قائماً ، ثم شرب قائماً في بعض الأحيان دل على أنه
ليس نهيا للتحريم ، وأنه يجوز الشرب قائماً وقاعداً ، ولكنه إذا شرب قاعداً يكون
أفضل وأحسن " انتهى من " فتاوى نور على الدرب " .
ب . أن يكون النهي واردا في
باب الآداب والإرشاد .
إذا ورد النهي في أمر يتعلق بالآداب ، فهو محمول عند جمهور أهل العلم على نهي
الكراهة .
وقد نص بعض العلماء على هذا الصارف ، وأنه مما يصرف النهي من التحريم إلى الكراهة ،
ومن ذلك قول الحافظ ابن حجر رحمه الله في " فتح الباري " : " قَوْله : ( بَاب
النَّهْي عَنْ الِاسْتِنْجَاء بِالْيَمِينِ ) أَيْ : بِالْيَدِ الْيُمْنَى ,
وَعَبَّرَ بِالنَّهْيِ إِشَارَة إِلَى أَنَّهُ لَمْ يَظْهَر لَهُ هَلْ هُوَ
لِلتَّحْرِيمِ أَوْ لِلتَّنْزِيهِ أَوْ أَنَّ الْقَرِينَة الصَّارِفَة لِلنَّهْيِ
عَنْ التَّحْرِيم لَمْ تَظْهَر لَهُ , وَهِيَ أَنَّ ذَلِكَ أَدَب مِنْ الْآدَاب ,
وَبِكَوْنِهِ لِلتَّنْزِيهِ قَالَهُ الْجُمْهُور , وَذَهَبَ أَهْل الظَّاهِر إِلَى
أَنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ " انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه
الله : " بعض العلماء سلك مسلكاً جيداً ، وهو أن الأوامر تنقسم إلى قسمين : أوامر
تعبدية .
وأوامر تأديبية ، يعني من باب الآداب ومكارم الأخلاق .
فما قصد به التعبّد فالأمر فيها للوجوب ، لأن الله تعالى أمرنا بها ورضيها لنفسه أن
نتقرب إليه بها فوجب علينا أن نقوم بذلك إن كانت أمراً وأن نترك ذلك إن كانت نهياً
.
أما إذا كانت من باب الآداب ومكارم الأخلاق وليس هناك علاقة بينها وبين التقرب إلى
الله عزّ وجل ، فإن الأمر فيها يكون للاستحباب والنهي فيها للكراهة لا للتحريم " .
انتهى من " منظومة أصول الفقه وقواعده مع شرحها للشيخ ابن عثيمين " .
ج . أن يرد النهي في حال دون
حال .
من الصوارف أن يأتي الترخيص بفعل ذلك المنهي عنه في حالة معينة ، كما في صوم يوم
الجمعة ، فقد روى مسلم (1144) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : ( لَا يَصُمْ أَحَدُكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَّا أَنْ يَصُومَ
قَبْلَهُ أَوْ يَصُومَ بَعْدَهُ ) ، فهنا أباح الصوم إذا لم يفرد ، فتجويزه في حال
دون حال يصرفه عن التحريم عند بعض أهل العلم .
فقد سئل الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله : إذا كان الأصل في النهي التحريم ، فلم
صار في الجمعة للكراهة ؟
فأجاب رحمه الله : " لعله لكونه رخص في الشرع في صيامه وصيام يوم معه ، فلو كان
حراماً لما ساغ صومه بالكلية " انتهى من " فتاوى ورسائل محمد بن إبراهيم آل الشيخ "
( 4 / 161) – ترقيم الشاملة - .
د . أن يرد الإجماع على عدم
التحريم .
من الصوارف التي تصرف النهي من التحريم إلى الكراهة أن يُنقل الإجماع في مسألة
معينه أن النهي فيها للكراهة ، كما في مسألة القزع ، فقد روى مسلم (2120) عن ابن
عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( نَهَى عَنْ الْقَزَعِ قَالَ
قُلْتُ لِنَافِعٍ وَمَا الْقَزَعُ قَالَ يُحْلَقُ بَعْضُ رَأْسِ الصَّبِيِّ
وَيُتْرَكُ بَعْضٌ ) .
قال النووي رحمه الله : " وَأَجْمَع الْعُلَمَاء عَلَى كَرَاهَة الْقَزَع إِذَا
كَانَ فِي مَوَاضِع مُتَفَرِّقَة ، إِلَّا أَنْ يَكُون لِمُدَاوَاةٍ وَنَحْوهَا ,
وَهِيَ كَرَاهَة تَنْزِيه " انتهى من " شرح مسلم للنووي " .
وهناك صوارف أخرى يذكرها بعض أهل العلم في كتبهم يصرفون بها أدلة النواهي من التحريم إلى الكراهة ، فينظر في ذلك لكتب الفقه وأصوله .
والحاصل : أن النواهي الواردة في النصوص الأصل فيها أنها محمولة على نهي التحريم ، وقد ينتقض هذا الأصل بوجود دليل أو قرينة تصرف ذلك النهي من التحريم إلى الكراهة .
والله أعلم
تعليق