الحمد لله.
المسلم في طهارة الاستنجاء لا يحتاج إلى السؤال عن نقض الوضوء أثناء استنجائه ، فهو حاصل ولا بد ، إما لأنه غالبا ما يسبقه قضاء حاجة ، أو غالبا ما يصاحبه مس الفرج ، وكلها نواقض وضوء ، ولا بد عقبها من الوضوء لرفع الحدث .
ولهذا لم يتضح لنا سبب معاناة السائلة ومكوثها نصف ساعة في الاستنجاء ، فإن كانت تسعى إلى الاستنجاء من غير انتقاض الوضوء فذلك من المتعذر ، ولهذا فإننا ننصحها بصرف هذا السعي عنها ، واعتياد الاستنجاء بعيدا عن التكلف والتنطع ، كما يستنجي سائر الناس ، وبعدَه تُباشرُ الوضوء لرفع الحدث والاستعداد للصلاة .
فإن كان مقصودها أن ماء الاستنجاء إذا دخل ثم خرج أصبح نجسا ، فيحتاج إلى ماء استنجاء جديد ، وهذا الجديد يدخل فيخرج نجسا ، فيحتاج إلى غسل جديد ، وهكذا إلى ما لا نهاية ، فلا نرى ذلك إلا من اتباع خطوات الشيطان ، ومن التنطع الذي يهلك صاحبه ، قال الله تعالى : ( وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) البقرة/168 ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ ) رواه مسلم (2670) ، وتأكدي أنك مهما قرأت من أقوال في بعض الفتاوى بنجاسة هذا الماء اليسير الخارج من أثر الاستنجاء ، فإن يسر الشريعة وقواعدها المتفق عليها تقضي بالعفو عن تلك النجاسة – على فرض حصولها -، " فليست الشريعة بنكاية " على حد تعبير العلامة الطاهر بن عاشور في " مقاصد الشريعة " (ص/337) ، ولا يمكن أن تأتي الأحكام الشرعية بمثل هذا العنت والمشقة التي تخرج بالبشر عن عاداتهم السوية ، ولهذا لم يوجب أكثر الفقهاء على المرأة غسل ما بطن من فرجها ، وأمروها بترك التكلف في هذا ، فقال فقهاء المالكية رحمهم الله : " ليس على مريد الاستنجاء غسل ما بطن من المخرجين حال استنجائه ، لا وجوبا ولا ندبا ، بل ولا يجوز له تكلف ذلك ، بأن يدخل الرجل أصبعه في دبره ، وتدخل المرأة أصبعها في قبلها ؛ لأنه من البدع المنهي عنها ، إذ هو من الرجل كاللواط ، ومن المرأة كالمساحقة ، بل المرأة تغسل دبرها كالرجل ، وتغسل ما يظهر من قبلها حال جلوسها لقضاء الحاجة كغسل اللوح " ينظر " الفواكه الدواني " (1/132) .
وقال الشيخ زكريا الأنصاري الشافعي رحمه الله في "أسنى المطالب" (1/ 53) :
" (وَيَكْفِي الْمَرْأَةَ) بِكْرًا أَوْ ثَيِّبًا فِي اسْتِنْجَائِهَا بِالْمَاءِ ( غَسْلُ مَا يَظْهَرُ ) مِنْهَا ( بِجُلُوسٍ عَلَى الْقَدَمَيْنِ) " انتهى .
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عَنْ امْرَأَةٍ
قِيلَ لَهَا : إذَا كَانَ عَلَيْك نَجَاسَةٌ مَنْ عُذَرِ النِّسَاءِ أَوْ مِنْ
جَنَابَةٍ لَا تَتَوَضَّئِي إلَّا تَمْسَحِي بِالْمَاءِ مِنْ دَاخِلِ الْفَرْجِ ،
فَهَلْ يَصِحُّ ذَلِكَ ؟
فأجاب :
" لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ إذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ جَنَابَةٍ أَوْ حَيْضٍ
غَسْلُ دَاخِلِ الْفَرْجِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ " انتهى
من "مجموع الفتاوى" (21/ 296-297) .
نقول هذا رغم أن الغالب هو عدم دخول الماء إلى باطن الفرج أثناء الاستنجاء ، وإنما
يصيب الظاهر ، ولكن على فرض الدخول أيضا فالقاعدة عند الفقهاء أنه " ينبغي الاحتراز
من المبالغة في الاستبراء ؛ لأنها تجر إلى الضرر أو الوسوسة " ينظر " فتح العلام "
للجرداني (1/381).
ولو تأملنا فيما نص عليه الفقهاء أنه من النجاسات التي يعفى عنها ، لعلمنا أن مثل
ما ورد في هذا السؤال هو مما يعفى عنه يقينا أيضا ، بل هو من إيهام الشيطان وتلبيسه
، ولا صلة له بحكم النجاسة مطلقا . ينظر " تتمة فيما يعفى عنه من النجاسات " في
كتاب " فتح العلام " للجرداني (1/354-369) .
والله أعلم .
تعليق