الحمد لله.
أولا :
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْمَدِينَةَ حَرَمٌ مِثْل مَكَّةَ ، فَيَحْرُمُ صَيْدُهَا ، وَلاَ يُقْطَعُ شَجَرُهَا ؛ إِلاَّ مَا اسْتُنْبِتَ لِلْقَطْعِ .
انظر : "الموسوعة الفقهية" (36/ 310) .
واستثنى الحنابلة ما تدعو
الحاجة إليه : للمساند ، والوسائد ، والعوارض ؛ ونحو ذلك مما يحتاجه أهل الحرث .
قال الحجاوي رحمه الله في "زاد المستقنع" (ص90) :
" ويحرم صيد المدينة ولا جزاء فيه ، ويباح الحشيش للعلف ، واتخاذ آلة الحرث ونحوه "
انتهى .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" قوله: " ويباح الحشيش للعلف ، وآلة الحرث ونحوه " ، لأن أهل المدينة أهل زروع
فرخص لهم في ذلك ، كما رخص لأهل مكة في الإذخر.
والدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رخص في ذلك ، فيباح أن تحش الحشيش لتعلف
بهائمك .
وكذلك قطع الأغصان لآلة الحرث ، أي السواني، بأن يقطع الإنسان شجرة ، لينتفع بخشبها
في المساند والعوارض، وما أشبه ذلك مما يحتاجه أهل الحرث ، وبهذا نعلم أن تحريم حرم
المدينة أخف من تحريم حرم مكة ".
انتهى من "الشرح الممتع" (7/ 223) .
وقال الشيخ أيضا :
" الفروق بين حرم مكة وحرم المدينة:
- أن حرم مكة ثابت بالنص والإجماع ، وحرم المدينة مختلف فيه.
- أن صيد حرم مكة فيه الإثم والجزاء ، وصيد حرم المدينة فيه الإثم ، ولا جزاء فيه.
- أن الإثم المترتب على صيد حرم مكة ، أعظم من الإثم المترتب على صيد المدينة.
- أن حرم مكة أفضل من حرم المدينة ؛ لأن مضاعفة الحسنات في مكة أكثر من المدينة ،
وعظم السيئات في مكة أعظم من المدينة .
- أن حرم مكة يحرم فيه قطع الأشجار بأي حال من الأحوال ، إلا عند الضرورة، وأما حرم
المدينة فيجوز ما دعت الحاجة إليه ، كالعلف، وآلة الحرث ، وما أشبه ذلك ... " انتهى
ملخصا من "الشرح الممتع" (7/ 224-225) .
وانظر إجابة السؤال رقم : (109171)
، والسؤال رقم : (191459)
.
وإنما رخص في نحو ذلك ، لأن
الحاجة تدعو إليه ؛ كما رُخص لأهل مكة في الإذخر ، لأن حاجتهم تدعو إليه .
روى أبو داود (2035) عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قَالَ في المدينة : ( لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، وَلَا
يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمَنْ أَشَادَ بِهَا،
وَلَا يَصْلُحُ لِرَجُلٍ أَنْ يَحْمِلَ فِيهَا السِّلَاحَ لِقِتَالٍ، وَلَا
يَصْلُحُ أَنْ يُقْطَعَ مِنْهَا شَجَرَةٌ ، إِلَّا أَنْ يَعْلِفَ رَجُلٌ بَعِيرَهُ
) وصححه الألباني في "صحيح أبي داود" .
قال ابن قدامة رحمه الله في "المغني" (3/ 325-326):
"وَيُفَارِقُ حَرَمُ الْمَدِينَةِ حَرَمَ مَكَّةَ فِي شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا،
أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ شَجَرِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ مَا تَدْعُو
الْحَاجَةُ إلَيْهِ، لِلْمَسَانِدِ وَالْوَسَائِدِ وَالرَّحْلِ، وَمِنْ حَشِيشِهَا
مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إلَيْهِ لِلْعَلْفِ ؛ لِمَا رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ،
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ : " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا حَرَّمَ الْمَدِينَة َ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّا
أَصْحَابُ عَمَلٍ، وَأَصْحَابُ نَضْح ، وَإِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَرْضًا غَيْرَ
أَرْضِنَا، فَرَخِّصْ لَنَا، فَقَالَ: ( الْقَائِمَتَانِ، وَالْوِسَادَةُ،
وَالْعَارِضَةُ، وَالْمِسْنَدُ، فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا يُعْضَدُ، وَلَا
يُخْبَطُ مِنْهَا شَيْءٌ ) ".
فَاسْتَثْنَى ذَلِكَ، وَجَعَلَهُ مُبَاحًا، كَاسْتِثْنَاءِ الْإِذْخِرَ بِمَكَّةَ
... وَلِأَنَّ الْمَدِينَةَ يَقْرُبُ مِنْهَا شَجَرٌ وَزَرْعٌ، فَلَوْ مَنَعْنَا
مِنْ احْتِشَاشِهَا، مَعَ الْحَاجَةِ، أَفْضَى إلَى الضَّرَرِ، بِخِلَافِ مَكَّةَ
... " انتهى .
والحديث الذي ذكره لم نجده في مسند الإمام أحمد ولا غيره من كتب الحديث ، فلعل
الإمام أحمد رحمه الله رواه في بعض مصنفاته التي لم تصل إلينا .
أما ما لا حاجة إليه في
العادة ، وإنما تكون الحاجة إليه نادرة ، فلا يرخص فيه ، كخشب السقف والعوارض في
البناء والخشب المطلوب لصناعة الأسرة والخزانات الخشبية ونحو ذلك ، فمثل هذا لا
يرخص فيه ، والواجب جلبه من خارج الحرم ، وهذا هو تحرير مذهب الحنابلة في هذه
المسألة .
والله أعلم .
تعليق