الحمد لله.
أولاً:
تحية المسجد سُنَّة مستحبَّة مؤكَّدة في قول أكثر أهل العِلْم ، وقد حكى بعضُ أهل العِلْم الإجماعَ على ذلك :
قال النووي رحمه الله: " أجمع العلماء على استحباب تحية المسجد ، ويُكرَه أن يجلس من غير تحية بلا عذر" انتهى من " المجموع " (3/ 544) ، وانظر للمزيد جواب سؤال رقم : (181099).
ثانيًا:
أمرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم للرجل الذي دخلَ المسجدَ وهو يخطب الجمعة بصلاة
الركعتين ، فيه دليلٌ على تأكُّد التحية في وقت الخطبة ، ولذا أمرَ النبيُّ صلى
الله عليه وسلم بها، وليس فيه دليلٌ على وجوبها ؛ بدليل حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
بُسْرٍ رضي الله عنه: " جَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ ، فَقَالَ
لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( اجْلِسْ؛ فَقَدْ آذَيْتَ )رواه
أبو داود (1118)، والنسائي (1399) ، وهو في صحيح الجامع (155) .
فلم يأمُرْه بصلاة التحيَّة .
ثالثا :
ليس تقديمُ الصلاة (المستحبَّة) على الاستماع الواجب (للخطبة) دليلاً على وجوب
التحيَّة؛ إذ لا مُنافاة بين صلاة التحية والاستماع للخُطبة ؛ فيمكن الجَمْع بين
الاثنين بأداء التحية مع التجوُّز فيها، ثم الجلوس للاستماع للخطبة ؛ كما دلَّ على
ذلك حديثُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما، قَالَ: " جَاءَ سُلَيْكٌ
الْغَطَفَانِيُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، وَرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَخْطُبُ ، فَجَلَسَ ، فَقَالَ لَهُ : ( يَا سُلَيْكُ ، قُمْ فَارْكَعْ
رَكْعَتَيْنِ ، وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا)، ثم قال: (إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ يَوْمَ
الْجُمُعَةِ ، وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ ، فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ ،
وَلْيَتَجَوَّزْ فِيهِمَا) رواه مسلم (875).
قال النووي رحمه الله بعد أن ذكرَ عدَّة أحاديث في الباب: "هذه الأحاديث كلها صريحة
في الدلالة لمذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وفقهاء المحدثين: أنه إذا دخل الجامع يوم
الجمعة والإمام يخطب : استُحِبَّ له أن يصلي ركعتين تحية المسجد ، ويُكرَه الجلوس
قبل أن يصليهما ، وأنه يُستحَبُّ أن يتجوَّز فيهما ليسمع بعدهما الخطبة " .
انتهى "شرح النووي على صحيح مسلم " (6/164).
وقال الشوكاني رحمه الله: " قوله في حديث الباب (وليتجوَّز فيهما): فيه مشروعية
التخفيف لتلك الصلاة ليتفرغ لسماع الخطبة ، ولا خلاف في ذلك بين القائلين بأنها
تُشرَع صلاة التحية حال الخطبة" انتهى من " نيل الأوطار " (3/307) .
رابعاً :
ما جاء في السؤال : "أليس الشيء الواجب ( وهو الاستماع للخطبة ) مقدما على الشيء
المستحب " ، هو استدلال القائلين بالوجوب ، بناء على قاعدة : "أن الواجب لا يترك
إلا لواجب ، وأن ما لا بد منه ، لا يترك إلا بما لا بد منه " .
وهذه القاعدة ، وإن قال بها من قال من الفقهاء ؛ فإنهم لا يطردونها في عامة مواردها
، وقد ذكروا لذلك فروعا عديدة ، خرجت عن هذه القاعدة :
مِنْهَا: النَّظَرُ إلَى الْمَخْطُوبَةِ ، لَا يَجِبُ ، وَلَوْ لَمْ يُشْرَعْ ،
لَمْ يَجُزْ.
وَمِنْهَا: رَفْعُ الْيَدَيْنِ عَلَى التَّوَالِي فِي تَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ .
وَمِنْهَا: قَتْلُ الْحَيَّةِ فِي الصَّلَاةِ: لَا يَجِبُ ، وَلَوْ لَمْ يُشْرَعْ
لَكَانَ مُبْطِلًا لِلصَّلَاةِ.
ينظر : "الأشباه والنظائر" للسيوطي (148) .
وقد ذكر تاج الدين السبكي تناقض الشافعية والأحناف في القول بها وتركها ، بحسب
اختيارهم في فروع القاعدة ، وعدم طردهم لها ، ثم قال :
" لعل الضابط ـ والله أعلم ـ في تعارض النفل والفرض أن يقال:
إن لزم من فعل النفل ترك الفرض بالكلية : فلا اكتراث بالنفل ، والفرض أفضل مطلقا؛
وإلا : فالنفل مقدم في الحقيقة ، إنما احتمل ترك فرض في زمن يسير ، لا يحصل به تمام
الغرض منه ، لنفل حصل تمام الغرض منه " انتهى ـ من "الأشباه والنظائر" ، للسبكي
(196) .
وهذا كلام حسن محرر .
وأما الحافظ ابن حجر رحمه الله فقد ذكر أن صلاة الركعتين ، مستثنى من عموم الأمر
بالإنصات للخطيب :
" تَخْصِيصُ عُمُومِهِ : بِالدَّاخِلِ .
وَأَيْضًا : فَمُصَلِّي التَّحِيَّةِ يَجُوزُ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ
مُنْصِتٌ ؛ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ : " يَا رَسُولَ اللَّهِ سُكُوتُكَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ
وَالْقِرَاءَةِ مَا تَقُولُ فِيهِ فَأَطْلَقَ عَلَى الْقَوْلِ سِرًّا السُّكُوتَ"
انتهى من "فتح الباري" (2/409) .
والله أعلم.
تعليق