الحمد لله.
أما قولك: "حب الله ليس شيء يولَد"؛ فهذه العبارة على إطلاقها فيها نظر ؛ فإنَّ العبادَ مجبولون ومفطورون على محبَّة خالقهم سبحانه ، كما قال سبحانه : (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) الروم/30 .
قال ابن القيم رحمه الله : "القلوب مفطورة مجبولة على محبَّة مَن أنعمَ عليها وأحسنَ إليها؛ فكيف بمَن كان الإحسان منه؟ وما بخلقه جميعهم من نعمة فمنه وحده لا شريك له؛ كما قال تعالى: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) النحل/ 53" ينظر: الداء والدواء لابن القيِّم (ص 228).
فأصل محبة الخالق جل جلاله : شيء يُولَد مع الإنسان، مجبول ومفطور عليه.
وأما قولك: "ولكنه شيء يكتسب ...الخ". ففيه صواب كثير؛ وذلك أن حبُّ الله تعالى وإن كان فطريًّا؛ فهو يزداد بمعرفة الله تعالى، والتعرُّف إليه سبحانه بأسمائه وصفاته العلا، والنظر والتفكُّر في مخلوقاته الدالَّة على كماله وجلاله وعظمته، ومُطالعة نِعَمه سبحانه على عِبادِه .
وهذه هي المحبة العبادية الإيمانية التكليفية ، التي يترتب عليها الثواب والعقاب ، والمدح والذم ، والإيمان والكفر .
روى البخاري (16) ومسلم (67) : عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رضي الله عنه قَالَ: ( ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ ) .
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "ومحبة الله تنشأ تارة من معرفته ، وكمال معرفته تحصل من معرفة أسمائه وصفاته، وأفعاله الباهرة، والتفكير في مصنوعاته ، وما فيها من الإتقان والحِكَم والعجائب؛ فإنَّ ذلك كلَّه يدلُّ على كماله وقدرته وحكمته وعِلمه ورحمته، وتارة تنشأ من مُطالعة النِّعَم، وفي حديث ابن عباس المرفوع: (أحبوا الله لِمَا يغدوكم من نِعَمه، وأحبوني لحب الله) خرَّجه الترمذي في بعض نسخ كتابه ـ (برقم 3789)، [ضعَّفه الألباني في ضعيف الجامع (176)] ـ .
وقال بعض السلف: "مَن عرفَ الله أحبَّه، ومَن أحبَّه أطاعه"؛ فإن المحبة تقتضي الطاعة؛ كما قال بعض العارفين: الموافقة في جميع الأحوال" انتهى من كتابه فتح الباري (1/ 51).
فالتعرُّف على الله تعالى بأسمائه وصفاته وآلائه وإحسانه سببٌ لزيادة لبلوغ المحبة الكسبية الإيمانية التكليفية ، ثم هي أيضا لسبب لزيادة المحبة الفطرية التي جبل عليها العباد .
فالعبد إذا عرفَ أنَّ الله تعالى هو الخالق الذي خلقَه وسوَّاه وجمَّل صورته؛ أحبَّه وازدادَ له حبًّا سبحانه وتعالى.
وإذا عرفَ أنَّ الله سبحانه هو الرَّازق المدبِّر الحيُّ القيُّوم، القائم بتدبير الخلق وأرزاقهم وجميع أحوالهم، والذي لا قيام لأحوالهم إلا به سبحانه؛ ازدادَ له حبًّا وقُربًا.
وإذا طالعَ العبدُ نِعَم الله عليه وإحسانَه إليه في كلِّ نفسٍ من أنفاسه؛ أحبَّ ربَّه بلا رَيب؛ "فإن القلوب جُبِلَت على حُبِّ مَن أحسنَ إليها وبُغضِ مَن أساء إليه، ولا أحدَ أعظم إحسانًا من الله سبحانه؛ فإنَّ إحسانه على عبده في كلِّ نَفَسٍ ولحظةٍ، وهو يتقلَّب في إحسانه في جميع أحواله، ولا سبيل له إلى ضبط أجناس هذا الإحسان، فضلاً عن أنواعه أو عن أفراده" (طريق الهجرتين لابن القيِّم ص 315).
ومن لوازم محبَّة الله تعالى: الامتثال والانقياد لأمره ونهيه، والرِّضا بحُكمه وشرعه، والتسليم والانقياد لدينه ونبيِّه بكلِّ جوارحه؛ كما قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) آل عمران/31.
"فجعلَ الله علامة الصِّدق في محبَّته: اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فدلَّ على أنَّ المحبَّة لا تتمُّ بدون الطاعة والموافقة.
ومن هنا قال الحسن: اعلم أنَّك لن تُحِبَّ الله حتى تُحِبَّ طاعته" جامع العلوم والحِكَم لابن رجب (1/ 212).
أمَّا مَن زعم محبَّة الله تعالى وخالفَ أمره وعصى ربَّه فهو كاذبٌ في محبَّته؛ كما قال الشاعر:
تَعْصِي الإلَهَ وَأَنْتَ تُظْهِرُ حُبَّه * * * هَذَا لَعَمْرِي في القِياسِ شَنِيعُ
لَوْ كانَ حُبُّكَ صَادِقًا لأَطَعْتَه * * * إِنَّ المُحِبَّ لِمَن يُحِبُّ مُطِيعُ
في كُلِّ يَوْمٍ يَبْتَدِيكَ بِنِعْمَةٍ * * * مِنْهُ وَأنتَ لِشُكْرِ ذَاك مُضِيعُ
نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق لما يحبُّه ويرضاه، آمين.
تعليق