الخميس 20 جمادى الأولى 1446 - 21 نوفمبر 2024
العربية

دعوى زواج النبي صلى الله عليه وسلم من خديجة طمعا في مالها

213469

تاريخ النشر : 06-06-2014

المشاهدات : 26396

السؤال


ادعى بعض غير المسلمين أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج سيدتنا خديجة رضوان الله تعالى عليها من أجل أموالها ، وقالوا : بأن هذه الأموال استخدمت في استئجار الصحابة لنشر الإسلام ، كما أثاروا التساؤلات حول زواج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها . هل كل هذه الادعاءات صحيحة . وإذا كان الجواب : لا ، فأرجوكم أن تشرحوا لي المسألة بكل التفصيل ؟

الجواب

الحمد لله.


نحن نربأ بالسائل الكريم ، وبجميع الإخوة القراء أن يتعاملوا مع جميع الادعاءات بالقدر الجاد الذي يأخذ منهم الجهد والوقت ، ويشغل بالهم وفكرهم ، فلو رحنا نتابع كل دعوى ساقطة قضينا زماننا وأضعنا أعمارنا ولم نقض منها شيئا ، ويكون المدعي بذلك قد كسب لا محالة ، إن لم يكسب قوة الدعوى وتطريق الشبهة ، كسب ضياع وقتنا في ترهاته ، وشغل عمرنا في سيء فكره ومقالاته .
ولكن – بما أن السؤال قد حضر هنا – فليكن أحد الأمثلة التي نقيس عليها كل ما نسمع من سخافات هؤلاء الحاقدين ، فنقول :
أولا وقبل كل شيء :
لم يُقِم المدَّعِي على كلامه أي دليل ، بل ولا شبهة دليل ، ولم يورد مستندا سوى ما يجده في نفسه مِن حقد أسود يحجبه عن التفكير السليم ، وكل دعوى تخلو من الدليل ساقطة أصلا وموضوعا .
ثانيا :
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم هو البادئ في عرض المتاجرة بمال أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها قبل زواجه بها ، بل كانت هي مَن رغب بذلك ، بعد أن سمعت عن أمانته وصدقه عليه الصلاة والسلام .
يقول محمد بن إسحاق (ت151هـ) – راوي السيرة المشهور -:
" كانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ، ذات شرف ومال ، تستأجر الرجال في مالها ، وتضاربهم إياه بشيء تجعل لهم منه . وكانت قريش قوما تجارا ، فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما بلغها من صدق حديثه ، وعظم أمانته ، وكرم أخلاقه - بعثت إليه ، فعرضت أن يخرج في مالها تاجرا إلى الشام ، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره من التجار ، مع غلام لها يقال له ميسرة ، فقبله منها رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم " .
انتهى من " السير والمغازي " لابن إسحاق (ص/81) .
والشاهد قوله ( بعثت إليه ) فقد كانت حريصة على تجارتها ، تنتخب شركاءها فيها ، فلم تجد حرجا رضي الله عنها – وذلك قبل الإسلام – في مصارحة الصادق الأمين عليه الصلاة والسلام في شأن مالها ، فكيف يقال بعد ذلك إنه عليه الصلاة والسلام هو الذي سعى في شراكتها طمعا في مالها !!
لن يتعب الحاقد في الطعن في هذه الرواية ، نحن نعلم ذلك ؛ حسنا ، فأين الرواية الصادقة الموثوق بها ، التي تؤيد ما يقول ؟!
ثالثا :
لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم هو من طلب الزواج من أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها ، ولكنه رأى فيها من الصفات الفاضلة ، والأخلاق الكريمة ، ما يجعله يقبل عرض الزواج الذي جاءت به إحدى صديقاتها .
عن نفيسة بنت منية قالت :
" كانت خديجة امرأة حازمة جلدة شريفة ، مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير ، وهي يومئذ أوسط قريش نسبا ، وأعظمهم شرفا ، وأكثرهم مالا ، وكل قومها كان حريصا على نكاحها لو قدر على ذلك ، قد طلبوها وبذلوا لها الأموال ، فأرسلتني دسيسا إلى محمد ، بعد أن رجع في عيرها من الشام ، فقلت : يا محمد ، ما يمنعك أن تزوج ؟ فقال : ما بيدي ما أتزوج به ، قلت : فإن كفيت ذلك ، ودعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة ألا تجيب ؟ قال : فمن هي ؟ قلت : خديجة ، قال : وكيف لي بذلك ؟ قالت : قلت : عَلَي . قال : فأنا أفعل . فذهبت ، فأخبرتها ، فأرسلت إليه أن ائت لساعة كذا وكذا ، وأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد ليزوجها ، فحضر ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمومته ، فزوجه أحدهم ، وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن خمس وعشرين سنة ، وخديجة يومئذ بنت أربعين سنة " .
رواه ابن سعد في " الطبقات الكبرى " (1/131) قال : أخبرنا محمد بن عمر بن واقد الأسلمي ، أخبرنا موسى بن شيبة ، عن عميرة بنت عبيد الله بن كعب بن مالك ، عن أم سعد بنت سعد بن الربيع (صحابية)، عن نفيسة بنت منية (واسم أبيها أمية) به .
وهذا إسناد ضعيف فيه مقال ظاهر ، فعميرة بنت عبيد الله لم نجد لها ترجمة ، وصرح غير واحد من الباحثين بعدم الوقوف على ترجمة لها .
انظر " رجال الحاكم في المستدرك " لمقبل الوادعي (2/432) .
وموسى بن شيبة : سكت عنه البخاري في " التاريخ الكبير " (7/286) ، وقال فيه أبو حاتم : صالح الحديث ، كما في " الجرح والتعديل " (8/146) ، ونقل عن الإمام أحمد أنه قال فيه : أحاديثه مناكير ، ولكن علق عليه المعلمي بقوله : " أخشى أن يكون أحمد إنما قال هذا في صاحب الترجمة السابقة " انتهى من تحقيقه لكتاب " الجرح والتعديل " ، وصاحب الترجمة السابقة اسمه أيضا موسى بن شيبة ، ولكن ليس هو المقصود هنا ، وإنما تشابهت الأسماء . ولذلك لم ينقل الذهبي في " تاريخ الإسلام " (4/986) كلام الإمام أحمد هذا ، والراوي المقصود هنا من أهل المدينة ، معروف بين النقاد ، وذكره ابن حبان في " الثقات " (9/158) .
ولكن ذلك لا يعني الحكم لحديثه بصحته ، إلا أننا نذكره هنا على سبيل الاستئناس والاعتبار في مرويات السير والتاريخ المحكية في الكتب .
وشيخ ابن سعد : محمد بن عمر ، هو الواقدي المعروف ، متروك الحديث ، مع سعة علمه وكثرة مروياته ، لا سيما في أبواب السير والتواريخ .

وعلى كل حال ، فما روي بإسناد ضعيف في مثل ذلك : أولى من الدعاوى المرسلة من غير إسناد صحيح ولا ضعيف ، فتأمل كيف تبلغ الجرأة بهم إلى إطلاق الكلام على عواهنه حتى يكثروا الشبهات على المسلمين ، فيصيبوا بذلك داء في قلوبهم .
وقد أقر المستشرقون بأن الزواج وقع بمبادرة من خديجة رضي الله عنها ، حتى الحاقدون من المستشرقين قرروا ذلك ، كما فعل ( سفاري ) الفرنسي المتوفى سنة (1788م) في كتابه " مختصر حياة محمد "، المطبوع ضمن كتاب " السيرة النبوية وكيف حرفها المستشرقون " (ص/40-41) ، ولم نجد من يلقي هذه الدعوى ، سوى بعض الحاقدين من جهلة النصارى اليوم في المنتديات الحوارية على شبكة الإنترنت .

رابعا :
ومن الحق : أن أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها قد واست رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسها ، ومالها ، كما تفعل كرائم النساء مع أزواجهن ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف ذلك لها ، ويذكره ولا ينساه :
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : " كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا ذَكَرَ خَدِيجَةَ أَثْنَى عَلَيْهَا فَأَحْسَنَ الثَّنَاءَ ، قَالَتْ : فَغِرْتُ يَوْمًا ، فَقُلْتُ : مَا أَكْثَرَ مَا تَذْكُرُهَا حَمْرَاءَ الشِّدْقِ قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا خَيْرًا مِنْهَا ، قَالَ : ( مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ ) " .
رواه الإمام أحمد في مسنده (24864ـ ط الرسالة) ، وصححه محققو المسند .
لكن ذلك كما قلنا : هو شأن المرأة الكريمة مع زوجها الذي تزوجها من قبل أن يوحى إليه ، ومن قبل أن يعلم شيئا عن أمر النبوة والوحي والرسالة ، بخمسة عشر عاما ، ثم إنها توفيت رضي الله عنها ، في العام العاشر من بعثته الشريفة ، قبل أن يهاجر إلى المدينة بنحو من ثلاث سنين ، حيث لم يكن له ولا لأصحابه في مكة شوكة ولا منعة ، ولا كان لهم دولة ولا سلطان ، ولا جيش ولا عتاد ، وكان أمر الدعوة إلى الله قائما في مكة على جهد آحاد الناس ، ودعوتهم لذويهم ، ومن يثقون في أمرهم ، لا يحتاج شيء من ذلك إلى نفقة ، أو تفرغ لأمر الدعوة ، أو استئجار أحد ليقوم بذلك ، ولا كان لهم من الظهور والمنعة ما يسمح بتلك الصورة التي يعرضها المغرضون .
ثم ماتت رضي الله عنها ، ولا نعلم أنه قد بقي له من مالها شيء ينفق منه على أصحابه ، ولو كان شيء من ذلك ، لما أخره عن أن يشتري من أسلم من الرقيق وتعرض للظلم والعذاب ، كحال بلال بن رباح مثلا ؛ بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتمكن من تجهيز رحلته حين هاجر عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة .
خامسا :
وأي حاجة له عليه الصلاة والسلام لمال أحد من البشر وقد خيَّره رب البشر بين أن يعطيه الدنيا وزهرتها وبين أن يكون عبدا رسولا ، فاختار الثاني ، كي يحيا حياة النبوة والرسالة المقترنة بالطبيعة البشرية الضعيفة .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " جَلَسَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ ، فَإِذَا مَلَكٌ يَنْزِلُ ، فَقَالَ جِبْرِيلُ : ( إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا نَزَلَ مُنْذُ يَوْمِ خُلِقَ قَبْلَ السَّاعَةِ ) ، فَلَمَّا نَزَلَ قَالَ : ( يَا مُحَمَّدُ ! أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ ، أَفَمَلِكًا نَبِيًّا يَجْعَلُكَ ، أَوْ عَبْدًا رَسُولًا ؟ ) ، قَالَ جِبْرِيلُ : تَوَاضَعْ لِرَبِّكَ يَا مُحَمَّدُ ، قَالَ : بَلْ عَبْدًا رَسُولًا ) رواه أحمد في " المسند " (12/76) وقال المحققون : إسناده صحيح على شرط الشيخين .
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَلَسَ عَلَى المِنْبَرِ فَقَالَ : ( إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ ) رواه البخاري (3904)، ومسلم (2382) .
وعاش حياة البسطاء ، قريبا من الناس ، يجوع ويشبع ، ويغنى ويفتقر ، حتى قالت عائشة رضي الله عنها : " تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا فِي بَيْتِي مِنْ شَيْءٍ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ ، إِلَّا شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي ، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ " متفق عليه .
فمن كان هذا قراره واختياره ، أفيطمع في مال أو ثروة أو تجارة تملكها امرأة تكبره بخمس عشرة سنة ، يتزوجها ولا يتزوج غيرها ، ويحبها حبا عظيما ، ويرى من خلالها ما يفيض عطفا ومودة وصلاحا ، ثم يقول هذا المدعي : إن زواجه بها كان لدافع مادي محض !!

ولعل هذا يكفي عن الإطالة في مناقشة شبهة باطلة كهذه ، ليس لها من الجدية والأسس العلمية ، ما يستدعي الوقوف عندها أطول من هذا .
والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب