الحمد لله.
التوحد أو الذاتوية (Autism) أحد الاضطرابات التابعة لمجموعة من اضطرابات التطور المسماة باللغة الطبية " اضطرابات في الطيف الذاتوي " (Autism Spectrum Disorders - ASD)
" وهو اضطراب صحي يظهر في الطفولة الباكرة ، ويؤثر على تطور الطفل من خلال تأثيره على قدرة الطفل على التواصل والتفاعل مع الآخرين ، وتشير التقديرات إلى أن طفلاً واحداً يصاب بالتَّوَحُّد أو الذاتوية من كل مائة طفل في العالم .
يتدرج التَّوَحُّد أو الذاتوية من الاضطراب البسيط في التواصل أو في السلوك إلى حالات التَّوَحُّد أو الذاتوية الشديدة ، وفي هذه الحالات الشديدة ، يمكن أن يعجز الطفل تماماً عن التواصل أو التفاعل مع الآخرين ، لا يوجد شفاء من التَّوَحُّد أو الذاتوية ، ولكن المعالجة الباكرة يمكن أن تساعد الكثير من الأطفال على تحسين حياتهم "
ينظر " موسوعة الملك عبد العزيز العربية للمحتوى الصحي " على الرابط الآتي :
http://cutt.us/9jfo0
وبالرغم من اختلاف خطورة وأعراض مرض التوحد من حالة إلى أخرى ، إلا أن جميع اضطرابات الذاتوية تؤثر على قدرة الطفل على الاتصال مع المحيطين به ، وتطوير علاقات متبادلة معهم .
ولكن لما كان هذا التفاوت حاصلا في درجات المرض ، ومستويات تأثر الطفل به ، كان لا بد من التفصيل في دخوله دائرة التكليف ، فنقول :
أولا :
إذا كان مرض التوحد قد بلغ بالمصاب به حدا يوصف فيه بالتخلف العقلي ، أو يفقد معه التمييز والقدرة على الحكم على الأشياء من حوله ، فلا شك بسقوط التكليف عنه في هذه الحالة ، وأنه يرفع القلم عنه ؛ فالعقل مناط التكليف ومحوره ، فإذا فُقِد لمرض أو خلل أو عارض ، زال التكليف نفسه ، فقد قال عليه الصلاة والسلام : ( رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ : عَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ ، وَعَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ) رواه أبوداود في " السنن " (رقم/4403) ، وصححه الألباني في " صحيح أبي داود ".
يقول الآمدي رحمه الله :
" اتفق العقلاء على أن شرط المكلف أن يكون عاقلا فاهما للتكليف ; لأن التكليف وخطاب من لا عقل له ولا فهم محال ، كالجماد والبهيمة .
ومن وجد له أصل الفهم لأصل الخطاب ، دون تفاصيله من كونه أمرا ونهيا ، ومقتضيا للثواب والعقاب ، ومن كون الآمر به هو الله تعالى ، وأنه واجب الطاعة ، وكون المأمور به على صفة كذا وكذا ، كالمجنون والصبي الذي لا يميز ، فهو بالنظر إلى فهم التفاصيل كالجماد والبهيمة بالنظر إلى فهم أصل الخطاب ، ويتعذر تكليفه أيضا " .
انتهى من " الإحكام في أصول الأحكام " (1/150) .
ثانيا :
أما إذا لم تظهر أعراض التخلف العقلي على مريض التوحد ، وانحصرت العلة في العزلة ، أو النمطية ، أو ضعف الإحساس بالأشياء ، أو ضعف فهم اللغة وأساليبها ، ولم تخرج عن هذا الإطار ، ففي هذه الحالة يبقى التكليف الشرعي ، ويؤاخذ هذا العبد بأقواله وأفعاله في الدنيا والآخرة . فالمرض في هذه الحالة لم يفقد المريض قدرته على تمييز الصواب من الخطأ ، والصلاح من الفساد ، والخير من الشر ، والمعروف من المنكر ، والإحسان من الجريمة ، وهذا القدر من " العقل "، و " التمييز "، هو مناط التكليف والسؤال بين يدي الله سبحانه ، فإذا كان مريض التوحد يدرك أن السرقة شر وفساد وجريمة ، ثم أقدم عليها ، فهو مسؤول عن ذلك كله .
ثالثا :
أما إذا اضطرب حال المريض ، فمرة يفقد قدراته الإدراكية ، وأخرى يسترجعها ويكون قادرا على تمييز تصرفاته وضبطها ، ففي هذه الحالة يحكم له بالتكليف حال إدراكه وتعقله ، ويسقط عنه التكليف حال طروء العلة به .
ومثل ذلك : لو أدرك أمرا معينا ، وغاب عنه إدراك أمر أو أمور ؛ فإنه يكلف بما أدركه ، ويسقط عنه التكليف فيما عجز عن إدراكه .
وهذا كله من مقتضى عدالة الشريعة المطلقة ، يدل عليه قول الله سبحانه وتعالى : ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ) القصص/59، وقال عز وجل : ( ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ) الأنعام/131.
وهذا التفاوت في التكليف ليس بمستنكر ، بل يقع حتى للإنسان السوي العاقل ، حيث يسقط عنه التكليف حال نومه أو نسيانه أو فقدان وعيه ، ونحوها من العوارض التي تؤثر في الأهلية ، والفقهاء تحدثوا عن الذي يُجن أحيانا ويُفيق أحيانا أخرى ، كما تحدثوا عن " العته " باعتباره علة تصيب العقل ، فتُفقده إدراكه في كثير من الأحيان .
والقاعدة في جميع هذه الصور : أن حال توافر العقل المدرِك يقع التكليف والمسؤولية ، وحال فقدانها يسقط التكليف ، وحال طروء الخلل عليها يحاسبه الله عز وجل بعدله المطلق .
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله :
" مورد التكليف هو العقل ، وذلك ثابت قطعا بالاستقراء التام ؛ حتى إذا فقد ارتفع التكليف رأسا ، وعد فاقده كالبهيمة المهملة ، وهذا واضح في اعتبار تصديق العقل بالأدلة في لزوم التكليف " انتهى من " الموافقات " (3/209) .
وجاء في كتاب " التقرير والتحبير " لابن أمير حاج الحنفي (2/ 176) تعريف " العته " بقوله :
" آفة ناشئة عن الذات ، توجب خللا في العقل ، فيصير صاحبه مختلط الكلام ، فيشبه بعض كلامه كلام العقلاء ، وبعضه كلام المجانين ، فلا تجب العبادات عليه ، كما لا يجب على الصبي العاقل أيضا ، كما هو اختيار عامة المتأخرين ، و[لا تجب] العقوبات [عليه]، كما لا تجب على الصبي العاقل أيضا ، بجامع وجود أصل العقل ، مع تمكن خلل فيه فيهما ، دفعا للحرج " انتهى.
وجاء في " فتاوى اللجنة الدائمة " (المجموعة الثانية 5/ 21) - وقد سئلت عن فتاة تصاب من حين لآخر بنوبات الصرع الهستيري ، وتفكيرها محدود ، بمعنى : أنها تفكر وتتصرف بعقول الصغار – فكان الجواب :
" إذا كانت هذه الفتاة تعقل أحيانا : فيجب عليها أداء الواجبات الشرعية من صلاة وصيام وغيرها حال عقلها ، وأما في حال غياب عقلها فإنه لا يجب عليها شيء من التكاليف الشرعية ؛ لحديث : ( رفع القلم عن ثلاثة ) . . . وذكر منهم : ( وعن المجنون حتى يفيق ) .
ويجب على والديها الإحسان إليها ، والرأفة بها ، وتعليمها ما تحتاج إليه من أمور دينها ودنياها ، وأهم ذلك أمرها بالصلاة وتعليمها ما يلزم لها من الطهارة من الحدث الأصغر والأكبر وهم مأجورون على ذلك " انتهى.
عبد العزيز بن باز – عبد العزيز آل الشيخ – بكر أبو زيد .
وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله :
" هناك رجل ضعيف العقل ولكنه ليس مجنونا، إلا أنه لا يستطيع التمييز بين أشياء كثيرة ، فهو لا يستطيع العد من الواحد إلى العشرة مثلا مهما حاولنا معه ، هل يجب على مثل هذا الرجل الصيام والصلاة وضبطها عليه ، حيث إنه يكلف ببعض الأعمال ، مما يؤدي إلى عطشه كالرعي ؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا " .
فأجاب رحمه الله :
" إذا كان يعقل أن الله أوجب عليه الصوم والصلاة ، يفهم أنه خلق ليعبد الله ويميز فيما يتعلق بماله في ضبط ماله والتصرفات في ماله ، فهذا من العقلاء يلزمه أن يؤدي ما أوجبه الله عليه من صلاة وغيرها .
أما إن كان عقله قد اختل ، وتبين خلل عقله ، وأنه من جملة المعتوهين الذين ليس لهم عقل يميزون به بين الحق والباطل ، أو بين الخير والشر ، وبين ماله ومال غيره ، ونحو ذلك .. سقطت عنه ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن الصغير حتى يبلغ ) .
فالذي يشبه المجنون بعدم ضبطه للأمور ، وعدم حسن التصرف لأن عقله مفقود : فلا تكليف عليه." انتهى من "فتاوى نور على الدرب" (6/14-15) .
وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله ، أيضا :
" إذا كان لدي أخ أصم وأبكم فهو لا يسمع ولا يتكلم كما هو معلوم ، وطبعا لا يعرف شيئا عن الصلاة ولا الصوم ولا الزكاة ، ولا يعرف شيئا عن أحكام الإسلام ، ولا يعرف شيئا من القرآن. كيف يكون التوجيه والحالة هذه ؟
فأجاب :
" هذا لا بد أن يفعل معه ما يعلم به عقله بالإشارة إذا كان بصيرا ، وينبغي أن يعلم الصلاة بالفعل؛ فيصلي عنده وليه أو غيره ، ويشار له أن يفعل هذا الفعل ، مع بيان الأوقات بالطريقة التي يفهمها ، أو بتعليمه الصلاة كل وقت بالفعل بعد أن يعلم أنه عاقل ، ويكتب له إن كان يعرف الكتابة حقيقة العقيدة الإسلامية ، وأركان الإسلام مع بيان معنى الشهادتين ، وهكذا بقية أحكام الشرع توضح له كتابة .
ومن ذلك أحكام الصلاة من الوضوء والغسل ومن الجنابة ، وبيان الأوقات ، وأركان الصلاة وواجباتها وما يشرع فيها ، وبيان السنن الراتبة ، وسنة الضحى والوتر إلى غير ذلك مما يحتاجه المكلف لعله يستفيد من الكتابة .
ومتى علم عقله بأي وسيلة : ثبت أنه من المكلفين إذا بلغ الحلم بإحدى علاماته المعلومة، ولزمته أحكام المكلفين حسب علمه وقدرته .
أما إن ظهر من حاله أنه لا يعقل : فلا حرج عليه ، لأنه غير مكلف ، كما جاء في الحديث الصحيح: رفع القلم عن ثلاثة: الصغير حتى يبلغ ، والمعتوه حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ " انتهى من " مجموع فتاوى ابن باز " (5/ 281) .
والخلاصة :
أن مريض التوحد لا يحكم عليه بحكم مطلق ، بل كل حالة بحسبها ، فإن لم يفقد قدراته العقلية التي يميز بها بين الخير والشر ، والصواب والخطأ ، فهو مكلف ، مؤاخذ على أقواله وأفعاله ، وحسابه عند ربه . أما إذا فقد تلك القدرات ، أو ضعفت واختلت ، سقط عنه التكليف شرعا ، ووجب على من حوله مراعاة ذلك في أمره ونهيه وتعليمه .
والله أعلم .
تعليق