الحمد لله.
أولا :
اختلف العلماء - رحمهم الله تعالى - في مسألة سفر الزوجة مع زوجها ، وهل يجب عليها أن تخرج معه في سفره أو لا يجب ؟
والراجح الذي عليه جمهور العلماء : أن الزوج إذا سافر وأراد اصطحاب زوجته معه ، وجب عليها مرافقته والانتقال معه ، وإن كرهت ، ما دام أنه سيوفر لها الحياة المناسبة ، وما دامت تأمن على نفسها ومالها في هذا السفر .
جاء في " البناية شرح الهداية " (5 / 190): " إذا أوْفى الرجل امرأته مهرها المعجل ، نقلها إلى حيث شاء من البلاد ؛ لقوله عز وجل: ( أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ) [الطلاق: 6] وبه قال الشافعي ومالك وأحمد وأصحابهم" انتهى , وفي " البناية " أيضا (5 / 191): " والفتوى على أن للزوج أن يسافر بها إذا أوفاها المعجَّل ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( أَسْكِنُوهُنَّ ) [الطلاق: 6]" انتهى .
وقال الإمام مالك رحمه الله : " وللزوج أن يظعن [ أي : يسافر ] بزوجته من بلد إلى بلد ، وإن كرهت ، وينفق عليها " انتهى من "تهذيب المدونة " (1/421) .
وخالف في ذلك الفقيهان : أبو الليث ، وأبو القاسم الصفار ، وغيرهما من فقهاء الحنفية ، فأفتوا بخلاف ظاهر الرواية في المذهب الحنفي , وذهبوا إلى أن الرجل إذا أراد السفر ، فليس له أن يخرج بزوجته إذا رفضت , وعللوا ذلك بفساد الزمان ، وبأن الغريب يؤذى .
جاء في " الدر المختار وحاشية ابن عابدين " (3 / 146) : " ثم ذكر عن الفقيهين أبي القاسم الصفار وأبي الليث : أنه ليس له السفر مطلقا بلا رضاها ، لفساد الزمان ؛ لأنها لا تأمن على نفسها في منزلها ، فكيف إذا خرجت ؟ وأنه صرح في المختار بأن عليه الفتوى " انتهى .
لكن ذكر بعض المحققين من فقهاء الحنفية أن هذا " من باب اختلاف الحكم باختلاف العصر والزمان , وأن الأمر ينبغي أن يفوَّض إلى المفتي المسئول عن الحادثة ، وأنه لا ينبغي طرد الإفتاء بواحد من القولين على الإطلاق ، فقد يكون الزوج غير مأمون عليها ، يريد نقلها من بين أهلها ليؤذيها أو يأخذ مالها، بل نقل بعضهم أن رجلا سافر بزوجته ، وادعى أنها أمته وباعها , فمن علم منه المفتي شيئا من ذلك : لا يحل له أن يفتيه بظاهر الرواية ، لأنا نعلم يقينا أن الإمام لم يقل بالجواز في مثل هذه الصورة .
وقد يتفق تزوُّج غريب بامرأة غريبة في بلدة ، ولا يتيسر له فيها المعاش ، فيريد أن ينقلها إلى بلده ، أو غيرها ، وهو مأمون عليها، بل قد يريد نقلها إلى بلدها ؛ فكيف يجوز العدول عن ظاهر الرواية في الصورة ، والحال أنه لم يوجد الضرر الذي علل به القائل بخلافه , بل وجد الضرر للزوج دونها ، فنعلم يقينا أيضا أن من أفتى بخلاف ظاهر الرواية ، لا يقول بالجواز في مثل هذه الصورة ؛ ألا ترى أن من ذهب بزوجته للحج ، فقام بها في مكة مدة ، ثم حج ، وامتنعت من السفر معه إلى بلده , هل يقول أحد بمنعه عن السفر بها ، وبتركها وحدها تفعل ما أرادت ؟
فتعين تفويض الأمر إلى المفتي ، وليس هذا خاصا بهذه المسألة , بل لو علم المفتي أنه يريد نقلها من محلة إلى محلة أخرى ، في بلدة بعيدة عن أهلها ، لقصد إضرارها : لا يجوز له أن يعينه على ذلك " انتهى من " الدر المختار وحاشية ابن عابدين " (3 / 146) باختصار.
والخلاصة : أن الزوجة ينبغي أن تسافر مع زوجها حيثما أراد ، بشرط أن يكون الزوج مأمونا ، وأن ينقلها إلى محلة تأمن فيها على نفسها ومالها , ولا تتضرر هي بالنقلة معه إليها .
جاء في " منح الجليل شرح مختصر خليل " (3 / 424): ثم إنما يسافر بها لبلد تجري فيها الأحكام , وهو حرٌّ مأمون عليها ، والطريق مأمونة , والبلد قريب لا ينقطع خبرها عن أهلها ، ولا خبر أهلها عنها ، فالعبد لا سفر له بزوجته ، ولو أمة ، وتجري هذه الشروط في سفره بها حال يسره أيضا " انتهى .
ثانيا:
يجب على الزوج أن يسكن زوجته سواء في السفر أو الإقامة في مسكن مناسب ، تأمن فيه على نفسها ومالها ، ومباشرة خصوصياتها .
جاء في " الموسوعة الفقهية الكويتية " (6 / 275) : " ومن شروط المسكن : أن تأمن فيه الزوجة على نفسها ومالها " انتهى .
وفي " فتح المعين بشرح قرة العين بمهمات الدين " (1 / 540) :" ولها عليه مسكن تأمن فيه ، لو خرج عنها ، على نفسها ومالها ، وإن قلَّ ، للحاجة ، بل للضرورة إليه ، يليق بها عادة " انتهى .
وقد اختلف الفقهاء فيمن يعتبر به حال المسكن : فذهب الشافعية ومن وافقهم إلى أنه لا بد وأن يكون المسكن لائقا بالزوجة عادة , جاء في " حاشية البجيرمي على الخطيب " (4 / 96) : " ولا بد أن يكون المسكن يليق بها عادة ، أي بحيث تأمن فيه على نفسها ومالها وإن قلَّ ، فلو لم تأمن أبدل لها المسكن بما تأمن على نفسها فيه ، والقاعدة : أن ما كان تمليكا كالنفقة والكسوة والأواني : يراعى فيه حال الزوج ، وما كان إمتاعا كالمسكن والخادم ، يراعى فيه حال الزوجة " انتهى باختصار.
وذهب الحنابلة ومن وافقهم إلى أن المسكن يراعى فيه حال الزوجين ، فيكون على قدر يسارهما وإعسارهما , جاء في " المغني " لابن قدامة (8 / 200) : " ويكون المسكن على قدر يسارهما وإعسارهما ؛ لقول الله تعالى : ( مِنْ وُجْدِكُمْ ) [الطلاق: 6] ، ولأنه واجب لها لمصلحتها في الدوام ، فجرى مجرى النفقة والكسوة " انتهى.
ومما سبق نعلم أن هذه الزوجة : يجب عليها أن تسافر إلى زوجها حيث طلب منها ، هذا إذا كان الزوج مأمونا ، وكان سيوفر لها مسكنا مناسبا لها تأمن فيه على نفسها ومالها ، وصحتها وخصوصياتها .
أما إذا كان المسكن غير مناسب بحيث تخشى على نفسها الهلاك ، أو على مالها من الضياع ، أو على صحتها من المرض : فلا يلزمها حينئذ السفر إليه ؛ لكن ذلك لا يعني سقوط حق الزوج عليها بالنقلة معه ، كلية ؛ بل تطلب منه أن يوفر لها مسكنا آخر ملائما ، تنتقل إليه فيه .
وينبغي للزوجة أن تراعي أمر زوجها ، وتتعاون معه في احتمال مشقات الغربة ، وطلب العيش ، وأن تكون له ، لا عليه .
والله أعلم .
تعليق