الحمد لله.
أولا: اختلف العلماء في حكم جمع الصلوات لأجل الثلج :
ففي المذهب الحنفي : عدم جواز ذلك ؛ لأنهم يضيقون جدا في أمر الجمع بين الصلوات ، حتى إنهم لا يجيزون الجمع بين الصلوات إلا في عرفة بين الظهر والعصر ، وفي مزدلفة بين المغرب والعشاء لمن كان محرما بالحج ، قال الكاساني في "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" (1 / 126): " قال أصحابنا: إنه لا يجوز الجمع بين فرضين في وقت أحدهما ، إلا بعرفة والمزدلفة ؛ فيجمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر بعرفة، وبين المغرب والعشاء في وقت العشاء بمزدلفة، اتفق عليه رواة نسك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله، ولا يجوز الجمع بعذر السفر والمطر" انتهى.
وأما المالكية : فيجوز عندهم الجمع بين المغرب والعشاء خاصة لأجل الثلج ، بل هو سنة عندهم .
جاء في " الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني " (1 / 231): " الجمع ليلة المطر سنة ماضية، والأصل الحقيقة، وقد فعله - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء - رضي الله تعالى عنهم - وفعلهم لا يطرأ عليه نسخ، وأُلحق بالمطر : الثلج والبَرَد " انتهى.
وجاء في " الثمر الداني شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني " (1 / 190): " فالمطر سبب للجمع بين المغرب والعشاء ، على القول المشهور ؛ بشرط أن يكون وابلا ، أي كثيرا ، وهو الذي يحمل أواسطَ الناس على تغطية الرأس ، وسواء كان واقعا أو متوقعا ، ويمكن علم ذلك بالقرينة. ومثل المطر : الثلج والبرد " انتهى.
مع التنبيه على أن الجمع - عند المالكية - إنما يختص بأهل المساجد غير المقيمين فيها.
جاء في " الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني " (1 / 231): " وإنما يطلب ذلك الجمع في حق أرباب المساجد ، الساكنة بغيرها ، رفقا بهم في تحصيل فضل الجماعة لهم ، من غير مشقة زائدة بسبب ذهابهم قبل شدة الظلام اللاحقة لهم إن صبروا لغيبوبة الشفق، ولذلك لا يجمع أرباب المساجد المعتكفة بها ، إلا تبعا لمن منزله خارج عن المسجد ، كالمجاورين بالأزهر المنقطعين به ، لا يجمعون إلا تبعا للإمام الذي منزله خارج عن المسجد ، وأما لو كان الإمام من جملتهم : لوجب عليه استخلاف من منزله خارج عن المسجد ، ويتأخر المعتكف يصلي مأموما تبعا" انتهى .
وأما الشافعية فيجوز - في المعتمد عندهم - الجمع بين الصلاتين في المطر والثلج ، إذا كان الثلج يذوب ويبل الثوب ، جاء في " المجموع شرح المهذب " (4 / 381): "قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ : فِي الْمَطَرِ . وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ قَوْلًا أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي وَقْتِ الْمَغْرِبِ ، وَلَا يَجُوزُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَقَالَ الْمُزَنِيّ : لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا .
وَالْمَذْهَبُ : الْأَوَّلُ ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ قَدِيمًا وَجَدِيدًا ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ . قَالَ أَصْحَابُنَا: وَسَوَاءٌ قَوِيُّ الْمَطَرِ وَضَعِيفُهُ ، إذَا بَلَّ الثَّوْب .
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالثَّلْجُ وَالْبَرَدُ إنْ كَانَا يَذُوبَانِ وَيَبُلَّانِ الثَّوْبَ : جَازَ الْجَمْعُ ، وَإِلَّا : فَلَا . هَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ فِي الطَّرِيقَتَيْنِ ، وَهُوَ الصَّوَابُ . وَحَكَى صَاحِبُ التَّتِمَّةِ وَجْهًا : أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بِالثَّلْجِ ، وَإِنْ لَمْ يَذُبْ ، وَلَمْ يَبُلَّ الثِّيَابَ . وَهُوَ شَاذٌّ غَلَطٌ. وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَجْهًا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ مُطْلَقًا ، وَهُوَ وَجْهٌ ضَعِيفٌ خَرَّجَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي تَعْلِيقِهِ اتْبَاعًا لِاسْمِ الْمَطَرِ . وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ ، أَوْ بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ اسْمَ الْمَطَرِ لَيْسَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهِ ، فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْمَعْنَى " انتهى.
ولكن من فقهاء الشافعية من أجاز الجمع في الثلج إذا كان قطعا كبارا ، جاء في " أسنى المطالب في شرح روض الطالب " (1 / 245): " نَعَمْ ؛ إنْ كَانَ الثَّلْجُ قِطَعًا كِبَارًا : جَازَ الْجَمْعُ بِهِ ، كَمَا فِي الشَّامِلِ وَغَيْرِهِ ، وَفِي مَعْنَاهُ : الْبَرَدُ " انتهى.
وأما الحنابلة : فيجوز الجمع عندهم للثلج في المغرب والعشاء خاصة ، وبعضهم يجعل الظهرين في ذلك كالعشاءين في جواز الجمع ، جاء في الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي (2 / 337): " قوله (والمطر الذي يبل الثياب) . ومثله: الثلج والبَرَد والجليد . واعلم أن الصحيح من المذهب: جواز الجمع لذلك من حيث الجملة ، بشرطه، نص عليه، وعليه الأصحاب. وقيل: لا يجوز الجمع. وهو رواية عن أحمد.
تنبيه: مراده بقوله " الذي يبل الثياب " : أن يوجد معه مشقة، قاله الأصحاب. ومفهوم كلامه: أنه إذا لم يبل الثياب ، لا يجوز الجمع. وهو صحيح، وهو المذهب، وعليه جمهور الأصحاب. وقيل: يجوز الجمع للطلِّ. قلت: وهو بعيد. وأطلقهما ابن تميم. قوله (إلا أن جمع المطر يختص العشاءين، في أصح الوجهين) . وهما روايتان، وهذا المذهب بلا ريب. نص عليه في رواية الأثرم. وعليه أكثر الأصحاب، منهم أبو الخطاب في رءوس المسائل ، فإنه جزم به فيها.
والوجه الآخر: يجوز الجمع كالعشاءين. اختاره القاضي، وأبو الخطاب في الهداية، والشيخ تقي الدين وغيرهم " انتهى.
مع التنبيه على أن الحنابلة قد اشترطوا شروطا لجمع التقديم ، جاء في كشاف القناع عن متن الإقناع (2/ 8): " (ويشترط للجمع في وقت الأولى) ظهرا كانت أو مغربا، وهو جمع التقديم (ثلاثة شروط) أحدها: (نية الجمع عند إحرامها) : لأنه عمل فيدخل في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم - إنما الأعمال بالنيات ، وكل عبادة اشترطت فيها النية اعتبرت في أولها ، كنية الصلاة . ولا تشترط نية الجمع عند إحرام الثانية. (وتقديمها) أي الأولى (على الثانية في الجمعين) أي جمع التقديم والتأخير، فلا يختص هذا الشرط بجمع التقديم (فالترتيب بينهما) أي المجموعتين (كالترتيب في الفوائت ، يسقط بالنسيان) ، لأن إحداهما هنا تبع لاستقرارهما ، كالفوائت. والثاني: (الموالاة فلا يفرق بينهما) أي المجموعتين ؛ لأن معنى الجمع المتابعة والمقارنة ، ولا يحصل ذلك مع التفريق الطويل (إلا بقدر إقامة ووضوء خفيف) لأن ذلك يسير وهو معفو عنه، وهما من مصالح الصلاة، والشرط الثالث: (أن يكون العذر) المبيح للجمع من سفر أو مرض ونحوه (موجودا عند افتتاح الصلاتين) المجموعتين (و) عند (سلام الأولى) لأن افتتاح الأولى : موضع النية ، وفراغها وافتتاح الثانية : موضع الجمع " انتهى باختصار .
والراجح من أقوال أهل العلم : جواز الجمع بين الصلوات بسبب الثلج لمن كان يقصد المسجد ليصلي فيه جماعة وكان يتأذى بهذا الثلج في طريقه ، ويشق عليه إتيان المسجد للجماعة .
جاء في " المجموع شرح المهذب " (4 / 381): " وَالْجَمْعُ بِعُذْرِ الْمَطَرِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الثَّلْجِ وَغَيْرِهِ : يَجُوزُ لمن يصلى جماعة فِي مَسْجِدٍ يَقْصِدُهُ مَنْ بَعُدَ ، وَيَتَأَذَّى بِالْمَطَرِ فِي طَرِيقِهِ" انتهى
ثانيا :
الحجة والبرهان في قول النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقوله صلى الله عليه وسلم - وحده - هو الحجة بنفسه لما ضمن الله سبحانه له العصمة من الخطأ والزلل ، أما غيره مهما بلغت منزلته وعلا قدره فهو عرضة للخطأ والغلط ، ولذا فإن الأئمة الأربعة - على علو منزلتهم وغزارة علمهم وعمق فهمهم - كانوا ينهون الناس عن اتباع أقوالهم هكذا مجردة دون حجة أو دليل ، قال ابن القيم رحمه الله تعالى في "إعلام الموقعين عن رب العالمين" (2 / 139): " وقد نهى الأئمة الأربعة عن تقليدهم ، وذموا من أخذ أقوالهم بغير حجة؛ فقال الشافعي: مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل، يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري " انتهى. وقد كان الأئمة رضوان الله عليهم يتبرؤون من أقوالهم واجتهاداتهم إذا خالفت قول الرسول صلى الله عليه وسلم ويصرحون أن مذهبهم هو اتباع حديث رسول الله إذا ثبتت صحته ، وهذه جملة من أقوالهم:
قال ابن عابدين في حاشيته (1 / 67): "مَطْلَبُ: صَحَّ عَنْ الْإِمَامِ (أبي حنيفة ) أَنَّهُ قَالَ: إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ فَهُوَ مَذْهَبِي " انتهى.
وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى : " إنما أنا بشر، أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكلما وافق الكتاب والسنة فخذوا به ، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه " انتهى من " جامع بيان العلم وفضله " (1 / 775) .
وقال النووي رحمه الله : " وصَحَّ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ: " إذَا وَجَدْتُمْ فِي كِتَابِي خِلَافَ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُولُوا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَعُوا قَوْلِي. وَرُوِيَ عَنْهُ إذَا صَحَّ الْحَدِيثُ خِلَافَ قَوْلِي فَاعْمَلُوا بِالْحَدِيثِ وَاتْرُكُوا قَوْلِي ، أَوْ قَالَ: فَهُوَ مَذْهَبِي وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَقَدْ عَمِلَ بِهَذَا أَصْحَابُنَا (الشافعية ) فِي مَسْأَلَةِ التَّثْوِيبِ وَاشْتِرَاطِ التَّحَلُّلِ مِنْ الْإِحْرَامِ بِعُذْرِ الْمَرَضِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي كُتُبِ الْمَذْهَب " انتهى من " المجموع شرح المهذب " (1 / 63).
وقال الإمام أحمد رحمه الله تعالى " لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الثوري ولا الأوزاعي، وخذ من حيث أخذوا " انتهى من " إعلام الموقعين عن رب العالمين " (2 / 139).
ثالثا:
مما سبق يُعلم أن كل قول أو رأي أو مذهب ثبت مخالفته لقول النبي صلى الله عليه وسلم : فلا يجوز اتباعه ، والأئمة الأعلام متبرئون منه وراجعون عنه ، قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله " أجمع الْمُسلمُونَ على أَن من استبان لَهُ سنة من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يحل لَهُ أَن يَدعهَا لقَوْل أحد " انتهى من إيقاظ همم أولي الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار " (1 / 58) ، وقال أيضا " كل مَا قلت ، وَكَانَ قَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خلاف قولي ، مِمَّا يَصح : فَحَدِيث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أولى ؛ فَلَا تقلدوني" انتهى من " مختصر المؤمل في الرد إلى الأمر الأول " (1 / 58).
وقال ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى " فالواجب على كل من بلغه أمر الرسول وعرفه : أن يبينه للأمة وينصح لهم، ويأمرهم باتباع أمره ، وإن خالف ذلك رأي عظيم من الأمة، فإن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أحق أن يعظَّم ويقتدى به من رأي معظَّم قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ.
ومن هنا رد الصحابة ومن بعدهم من العلماء على كل من خالف سنة صحيحة، وربما أغلظوا في الرد - لا بغضاً له ، بل هو محبوب عندهم، معظَّم في نفوسهم - لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبُّ إليهم، وأمره فوق كل أمر مخلوق. فإذا تعارض أمر الرسول وأمر غيره : فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أولى أن يقدَّم ويتَّبع، ولا يمنع من ذلك تعظيم من خالف أمره وإن كان مغفوراً له، بل ذلك المخالف المغفور له لا يكره أن يخالَف أمرُه إذا ظهر أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بخلافه، بل يرضى بمخالفة أمره ومتابعة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ظهر أمره بخلافه. كما أوصى الشافعي: إذا صح الحديث في خلاف قوله؛ أن يتبع الحديث ويترك قوله " انتهى من " الحكم الجديرة بالإذاعة " (1 / 34).
والله أعلم.
تعليق