الجمعة 19 رمضان 1445 - 29 مارس 2024
العربية

التوفيق بين الرحمة التي جاء بها الإسلام وبين قطع النبات وقتل الحيوان في الصيد

219060

تاريخ النشر : 17-08-2014

المشاهدات : 11460

السؤال


كيف يمكن التوفيق بين الآية "وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين" ، وبين عملية استخراج عطر العود من الشجر ، والذي يتم بطريقة عنيفة ، وبين عملية الحصول على العنبر الذي لا يتم إلا بقتل الغزلان ، والتي تقتل عادة فقط لهذا السبب ، وليس من أجل لحومها، بما أنّ كلمة العالمين تشمل عالم الحيوان والنبات ؟ وإذا كان ذلك جائزاً فهل يجوز أكل لحومها إذا كان الذي قتلها من غير المسلمين أم هل هناك شروط معينة حتى تحل لنا ؟ وهل تندرج هذه الأفعال تحت إيذاء الحيوان والنبات أم تحت باب الانتفاع بهم بالرغم من أنّ ذلك يتم من باب الرفاهية وعدم وجود الحاجة لذلك ؟

الجواب

الحمد لله.


أولا :
قول الله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) الأنبياء /107.
المشهور عند أهل التفسير أنّ المقصود بـ ( لِّلْعَالَمِينَ ) هنا من يعقل ، ثم اختلفوا هل المقصود به هم المؤمنون فقط أم عموم الإنس والجن مؤمنهم وكافرهم .
قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى :
" وقوله ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ وما أرسلناك يا محمد إلى خلقنا إلا رحمة لمن أرسلناك إليه من خلقي‏ .‏
ثم اختلف أهل التأويل في معنى هذه الآية ؛ أجميع العالم الذي أرسل إليهم محمد أريد بها ، مؤمنهم وكافرهم‏ ؟‏ أم أريد بها أهل الإيمان خاصة دون أهل الكفر ‏؟‏
فقال بعضهم‏:‏ عنى بها جميع العالم ؛ المؤمن والكافر ...
وقال آخرون ‏:‏ بل أريد بها أهل الإيمان دون أهل الكفر ...
وأولى القولين في ذلك بالصواب‏ القول الذي روي عن ابن عباس ، وهو أن الله أرسل نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع العالمين ، مؤمنهم وكافرهم‏ ؛ فأما مؤمنهم فإن الله هداه به وأدخله بالإيمان به وبالعمل بما جاء من عند الله الجنة ‏، وأما كافرهم فإنه دفع به عنه عاجل البلاء الذي كان ينـزل بالأمم المكذبة رسلها من قبله‏ " .
انتهى من " تفسير الطبري " ( 16 / 439 - 441) .
ورأى بعض المفسرين ؛ أنه يحتمل دخول المخلوقات الحية غير العاقلة في لفظ ( لِّلْعَالَمِينَ ) .
قال الشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى :
" والتعريف في ( لِّلْعَالَمِينَ ) لاستغراق كل ما يصدق عليه اسم العالم .
والعالم : الصنف من أصناف ذوي العلم ، أي الإنسان ، أو النوع من أنواع المخلوقات ذات الحياة كما تقدم من احتمال المعنيين في قوله تعالى: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) . فإن أريد أصناف ذوي العلم ، فمعنى كون الشريعة المحمدية منحصرة في الرحمة : أنها أوسع الشرائع رحمة بالناس ...
وإن أريد بـ ( لِّلْعَالَمِينَ) في قوله تعالى : ( إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) النوع من أنواع المخلوقات ذات الحياة ؛ فإن الشريعة تتعلق بأحوال الحيوان في معاملة الإنسان إياه وانتفاعه به ؛ إذ هو مخلوق لأجل الإنسان ، قال تعالى: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ) وقال تعالى : ( وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ، وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) .
وقد أذنت الشريعة الإسلامية للناس في الانتفاع بما ينتفع به من الحيوان ، ولم تأذن في غير ذلك ، ولذلك كره صيد اللهو وحرم تعذيب الحيوان لغير أكله ، وعد فقهاؤنا سباق الخيل رخصة للحاجة في الغزو ونحوه .
ورغبت الشريعة في رحمة الحيوان ... " .
انتهى من " التحرير والتنوير " ( 17/ 167 – 169 ) .

ثانيا :
رحمة الإسلام بالمخلوقات هي حقيقة ثابتة قطعية ، كما يعلم ذلك من عامة موارد الشريعة ، ومصادرها ؛ لكن ينبغي فهمها على وجهها الصحيح ، وبيان ذلك كالآتي :

1- الله خلق الناس في هذه الدنيا للابتلاء والامتحان .
قال الله تعالى :( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ) الملك / 1- 2.
وخلق الله أجسام الناس بأحسن صورة وأليقها لتحمل أمانة الدين التي كلفوا بها ، ولتقوى هذه الأجسام وتكون قادرة على تحمل التكاليف أباح لها ما يقويها وينشطها ، وما يحصل به حياتها وبقاؤها ، وكمالها وجمالها اللائق بتكريمها ، من طعام وشراب ودهن وعطر ودواء ؛ وأودع هذه المنافع في نباتات وحيوانات مختلفة .
ثم إن ذلك كله : لم يهمل فيه جانب الرحمة ، في حق ما خلقه الله لمنفعة الإنسان ؛ بل خلقه على هيئة تناسب حكمة خلقه ، من غير مجافاة لجانب الرحمة في حقه ، وشرع في حقه أيضا : ما يتمم ذلك ويكمله .
فمن ناحية الخلق ؛ جعل الله بعض الأطعمة لا روح لها تتألم أو تشعر كما هو حال النبات ، فلا ضرر عليه بأي صورة كان قطعه ، كما هو معلوم لكل العقلاء .
وأما الحيوان ، فهو وإن كانت له روح تتألم وتشعر بالخوف والجزع ؛ إلا أنّ لا عقل له ؛ فلا يعرف الموت إلا عندما يراه ، ولا يؤثر موت فرد من القطيع على باقي القطيع ؛ فترى القطيع يُفْتَرَس فرد من أفراده ، وبعد دقائق تراه قد عاد هذا القطيع في سكون ودعة إلى مرعاه وكأن شيئا لم يقع .

2- وأما من ناحية التشريع فالله سبحانه وتعالى نهى عن قتل الحيوان إلا للحاجة المشروعة ؛ فلا يجوز قتل الحيوان لغير حاجة مشروعة .
روى الإمام البخاري ( 5515 ) ، والإمام مسلم ( 1958 ) واللفظ له ؛ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ : " مَرَّ ابْنُ عُمَرَ بِفِتْيَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ نَصَبُوا طَيْرًا وَهُمْ يَرْمُونَهُ ، وَقَدْ جَعَلُوا لِصَاحِبِ الطَّيْرِ كُلَّ خَاطِئَةٍ مِنْ نَبْلِهِمْ ، فَلَمَّا رَأَوْا ابْنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ : مَنْ فَعَلَ هَذَا ؟ لَعَنْ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَعَنَ مَنْ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا " .
ثم شرع قتل الحيوان - عند الحاجة إلى ذلك - على أرحم طريقة .
وروى مسلم ( 1955 ) عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ : " قَالَ ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : (‏ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ ).‏

قال ابن رجب رحمه الله تعالى :
" والقِتلة والذِّبحة بالكسر ، أي: الهيئة ، والمعنى : أحسنوا هيئة الذبح ، وهيئة القتل . وهذا يدلّ على وجوب الإسراع في إزهاق النفوس التي يُباح إزهاقها على أسهل الوجوه . وقد حكى ابنُ حَزمٍ الإجماع على وجوب الإحسان في الذبيحة " .
انتهى من " جامع العلوم والحكم " ( 1 / 363 ).

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : " أَنَّ رَجُلًا أَضْجَعَ شَاةً يُرِيدُ أَنْ يَذْبَحُهَا ، وَهُوَ يَحُدُّ شَفْرَتَهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَتُرِيدُ أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ هَلَّا حَدَدْتَ شَفْرَتَكَ قَبْلَ أَنْ تُضْجِعَهَا ) الحاكم ( 4 / 231 ) وقال : هذا حديث صحيح على شرط البخاري . ووافقه الذهبي ، وصححه الألباني في " سلسلة الأحاديث الصحيحة " ( 1 / 63 ) .

فالخلاصة أخي الكريم : أن الانتفاع بما هو مباح من نبات وحيوان وفق الأحكام الشرعية ، لا يخالف الرحمة التي بعث الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم .
ثالثا :
الصائد غير المسلم إذا كان ممن تحل ذبيحته ؛ بأن يكون من أهل الكتاب : ففي هذه الحالة يباح أكل صيده عند جمهور أهل العلم ، وإذا كان ممن لا تحل ذبيحته ، كالمجوسي والهندوسي والملحد ونحو هذا ، فهذا لا يباح أكل صيده .
في " الموسوعة الفقهية الكويتية " ( 28 / 117 – 118 ) :
" أن يكون – أي الصائد - مسلما أو كتابيّا ، وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وقال المالكيّة‏:‏ لا يحلّ ما صاده الكتابيّ وإن حلّ ما ذبحه ...
وعلى ذلك فلا يحلّ صيد المشرك أو المرتدّ ، ووجه اشتراط هذا الشّرط هو أنّ غير المسلم لا يخلص ذكر اسم اللّه ، ووجه حلّ صيد وذبائح أهل الكتاب هو قوله تعالى‏:‏ ‏( وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ‏ ) .
والمقصود بالكتابيّ‏ :‏ اليهوديّ والنّصرانيّ ، ذمّيّاً كان أو حربيّاً‏ " انتهى
ولمزيد الفائدة طالع الفتوى رقم : ( 106051 ) .
وللتعرف على شروط الصيد طالع الفتوى رقم : ( 194080 ) .

والحاصل :
أنه لا حرج عليك في الاشتغال بتجارة العطور ، حتى وإن كان بعضها مستخرجا من الحيوان ، على الوجه المأذون فيه شرعا ، وليس في الانتفاع بالنبات أو الحيوان ، على الصفة الشرعية : ما يخالف جانب الرحمة في شيء .


والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب