الحمد لله.
أولا :
الصحابة رضي الله عنهم - مع كونهم أفضل الناس - فهم بشر من البشر ، يحصل بينهم ما يحصل بين الناس عادة من الخلاف واختلاف وجهات النظر ، لكنهم أسرع الناس إلى الخير ، وأعظم علما بالحق ، وعملا به ، وأوبة عن الخطأ ، متى أخطأ الواحد منهم ، كغيره من البشر .
والواجب على المكلف : الكف عن كل ما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم ، وإحسان الظن بهم فيه .
وأين تجد قوما هم خير من قوم صحِبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجروا معه وجاهدوا معه وصلوا خلفه ؟
انظر جواب السؤال رقم : (127028) .
ثانيا :
روى عبد الله بن أحمد في " السنة " (1312) ، وابن أبي عاصم في " السنة " (1219) ، والبيهقي في " الاعتقاد " (ص: 358) عن علي رضي الله عنه قال : " لَا يُفَضِّلُنِي أَحَدٌ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَّا جَلَدْتُهُ حَدَّ الْمُفْتَرِي " .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" ثَبَتَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا أوتى بِرَجُلِ يُفَضِّلُنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ : إلَّا جَلَدْته حَدَّ الْمُفْتَرِي " انتهى من "مجموع الفتاوى" (4/ 479) .
وقال أيضا :
" رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ نَحْوِ ثَمَانِينَ وَجْهًا وَأَكْثَرَ ، أَنَّهُ قَالَ عَلَى مِنْبَرِ الْكُوفَةَ : خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَر " انتهى من "مجموع الفتاوى" (4/ 407) .
ثالثا :
بيعة علي بن أبي طالب لأبي بكر رضي الله عنهما ثابتة في الصحيحين ، وإن وقعت متأخرة بضعة أشهر .
ولم يُظهِر عليٌّ على أبي بكر رضي الله عنهما خلافاً ، ولا شقَّ العَصا ، ولكنه تأخر عن الحضور لبيعته ، وكان سبب ذلك أنه عتب عليه وعلى عمر وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم : أنهم قضوا في أمر الخلافة دونه ، مع فضله وشرفه ومنزلته ، وكان من حقه أن يحضر الأمر ويستشار فيه ، ولا يقطع برأيٍ دونه .
وعذر الصحابة في ذلك أنهم بادروا بالبيعة لأبي بكر درءا للفتنة ، وحسما لمادة الفساد ، وخافوا حصول الخلاف والنزاع بتأخيرها .
ومن أسباب تأخره أيضا : أن فاطمة رضي الله عنها لما غضبت من رد أبي بكر عليها ، فيما سألته من الميراث : رأى عليٌّ أن يوافقها في الانقطاع عنه ، وخاصة مع ما هي فيه من الهم والغم والحزن على فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فعليّ رضي الله عنه لم يرفض بيعة أبي بكر رضي الله عنه ، وإنما تأخر عنها لما تقدم ذكره ، ثم جاء فبايع من غير إكراه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" عُلِم بالتواتر أنه لم يتخلف عن بيعته – يعني أبا بكر الصديق رضي الله عنه - إلا سعد بن عبادة ، وأما علي وبنو هاشم فكلهم بايعه باتفاق الناس ، لم يمت أحد منهم إلا وهو مبايع له ، لكن قيل : علي تأخرت بيعته ستة أشهر ، وقيل : بل بايعه ثاني يوم ، وبكل حال ، فقد بايعوه من غير إكراه " انتهى من " منهاج السنة " (8/232) .
وينظر جواب السؤال رقم : (147540) .
رابعا :
لم يثبت أن عثمان ضرب عمارا رضي الله عنهما ، فضلا عن أن يشهد ذلك عليّ فلا يُنكِره ، وكل ما روي في ذلك : لم يصح سندُه .
قال ابن شبة في " تاريخ المدينة " (3/ 1098) :
حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْفُضَيْلِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: دَعَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَفِيهِمْ عَمَّارٌ فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكُمْ، أَنْشُدُكُمُ اللَّهَ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُؤْثِرُ قُرَيْشًا عَلَى سَائِرِ النَّاسِ ، وَيُؤْثِرُ بَنِي هَاشِمٍ عَلَى سَائِرِ قُرَيْشٍ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَقَالَ: لَوْ أَنَّ مَفَاتِيحَ الْجَنَّةِ فِي يَدِي لَأَعْطَيْتُهَا بَنِي أُمَيَّةَ حَتَّى يَدْخُلُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ، وَاللَّهِ لَأُعْطِيَنَّهُمْ ، وَلَأَسْتَعْمِلَنَّهُمْ ، عَلَى رَغْمِ أَنْفِ مَنْ رَغِمَ . فَقَالَ عَمَّارٌ: عَلَى رَغْمِ أَنْفِي؟ قَالَ: عَلَى رَغْمِ أَنْفِكَ . قَالَ: وَأَنْفِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟ فَغَضِبَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَوَثَبَ إِلَيْهِ فَوَطِئَهُ وَطْأً شَدِيدًا، فَأَجْفَلَهُ النَّاسُ عَنْهُ .
وهذا إسناد ضعيف ، سالم بن أبي الجعد لم يسمع من عثمان ، قال الحافظ العلائي رحمه الله :
" سالم بن أبي الجعد الكوفي : مشهور ، كثير الإرسال عن كبار الصحابة ، كعمر وعلي وعائشة وابن مسعود وغيرهم رضي الله عنهم ، وقال أبو زرعة : سالم بن أبي الجعد ، عن عمر وعثمان وعلي : مرسل " انتهى من " جامع التحصيل " (ص 179) .
وقال ابن عبد ربه في " العقد الفريد " (5/ 57) :
" ومن حديث الأعمش يرويه أبو بكر بن أبي شيبة قال: كتب أصحاب عثمان عيبه وما ينقم الناس عليه ، في صحيفة، فقالوا : من يذهب بها إليه؟ قال عمار: أنا. فذهب بها إليه، فلما قرأها قال : أرغم الله أنفك، قال: وبأنف أبي بكر وعمر. قال: فقام إليه فوطئه حتى غشي عليه، ثم ندم عثمان، وبعث إليه طلحة والزبير يقولان له: اختر إحدى ثلاث : إما أن تعفو، وإما أن تأخذ الأرش ، وإما أن تقتص. فقال: والله لا قبلت واحدة منها حتى ألقى الله! قال أبو بكر: فذكرت هذا الحديث للحسن بن صالح، فقال : ما كان على عثمان أكثر مما صنع .
وهذا إسناد ضعيف كسابقه ، فإن الأعمش عداده في صغار التابعين ، لم يدرك عثمان ولا عليا ولا عمارا ، راجع : "ميزان الاعتدال" (2 /224) ، "التهذيب" (4/196) .
بل إن ابن عبد ربه ، الذي ذكر ذلك في كتابه : لم يسق إسناده إلى الأعمش ، فكما يحتمل أن يكون الحمل في هذه الرواية على من هو فوق الأعمش ، فكذلك يحتمل أن يكون ممن هو دونه ، ممن أبهمه ابن عبد ربه ، بين ابن أبي شيبة ، والأعمش .
قال ابن أبي بكر المالقي : " فإن قيل : بأن عثمان (رضي الله عنه) ضرب عماراً، قيل: هذا لا يثبت ، ولو ثبت فإن للإمام أن يؤدب بعض رعيته بما يراه ، وإن كان خطأ.
ألا ترى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أقصّ من نفسه ، وأقاد ، وكذلك أبو بكر وعمر (رضي الله عنهما) أدّبا رعيتهما باللطم والدّرّة ، وأقادا من أنفسهما .
فإن قيل : عثمان (رضي الله عنه) لم يقد من نفسه ؟
قيل له : كيف ذلك ، وقد بذل من نفسه ما لم يبذله أحد ، خصوصاً يوم الدار، فإنه قال : يا قوم ، إن وجدتم في كتاب الله أن تضعوا رجلي في قيد فضعوهما " انتهى من " شبهات حول الصحابة " - ذو النورين عثمان (ص 144) .
وقد جاء ما هو أصح من ذلك مما يخالفه ؛ فروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" (7/ 521) : وابن شبة في " تاريخ المدينة " (3/1101) من طريق حُصَيْن بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي جهيم ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي فِهْرٍ , قَالَ: أَنَا شَاهِدُ هَذَا الْأَمْرِ , قَالَ: جَاءَ سَعْدٌ وَعَمَّارٌ فَأَرْسَلُوا إِلَى عُثْمَانَ أَنِ ائْتِنَا , فَإِنَّا نُرِيدُ أَنْ نَذْكُرَ لَكَ أَشْيَاءَ أَحْدَثْتَهَا ، أَوْ أَشْيَاءَ فَعَلْتَهَا , قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ أَنِ انْصَرَفُوا الْيَوْمَ , فَإِنِّي مُشْتَغِلٌ ، وَمِيعَادُكُمْ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا .
قَالَ: فَانْصَرَفَ سَعْدٌ ، وَأَبَى عَمَّارٌ أَنْ يَنْصَرِفَ .
قَالَ: فَتَنَاوَلَهُ رَسُولُ عُثْمَانَ ، فَضَرَبَهُ .
قَالَ: فَلَمَّا اجْتَمَعُوا لِلْمِيعَادِ وَمَنْ مَعَهُمْ ، قَالَ لَهُمْ عُثْمَانُ مَا تَنْقِمُونَ مِنِّي؟
قَالُوا: نَنْقِمُ عَلَيْكَ ضَرْبَكَ عَمَّارًا ؟!
قَالَ عُثْمَانُ: جَاءَ سَعْدٌ وَعَمَّارٌ ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِمَا , فَانْصَرَفَ سَعْدٌ ، وَأَبَى عَمَّارٌ أَنْ يَنْصَرِفَ , فَتَنَاوَلَهُ رَسُولٌ مِنْ غَيْرِ أَمْرِي ; فَوَ اللَّهِ مَا أَمَرْتُ وَلَا رَضِيتُ , فَهَذِهِ يَدِي لِعَمَّارٍ فَيَصْطَبِرُ – يَعْنِي : يَقْتَصُّ .
وهذا إسناد لا بأس به ، رجاله ثقات ، وجهيم - ويقال : جهم - تابعي روى عنه ثقتان ووثقه ابن حبان ، فحديثه محتمل للتحسين .
فهذا الخبر أصح مما ورد من ضرب عثمان عمارا .
والخلاصة :
أنه لم يثبت أن عثمان ضرب عمارا رضي الله عنهما أصلا ، فضلا عن أن يقال ضربه بحضرة علي ، وعلي ساكت لم يدافع عنه ، والواجب حفظ حرمة أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم ، وحبهم ، والدفاع عنهم .
كما لا يجوز اعتماد كل ما ورد في كتب التاريخ إلا ما ثبتت صحته ، وما أحسن ما قال ابن خلدون رحمه الله :
" وكثيرا ما وقع للمؤرّخين والمفسّرين وأئمّة النّقل من المغالط في الحكايات والوقائع ، لاعتمادهم فيها على مجرّد النّقل غثّا أو سمينا ، ولم يعرضوها على أصولها ولا قاسوها بأشباهها ، ولا سبروها بمعيار الحكمة ، والوقوف على طبائع الكائنات ، وتحكيم النّظر ، والبصيرة في الأخبار ، فضلّوا عن الحق ، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط " انتهى من " تاريخ ابن خلدون" (1/ 13) .
والله تعالى أعلم .
تعليق