الحمد لله.
الشفاعة هي : " التوسُّط للغير، بجلب منفعة له أو دفع مضرَّة عنه " . القول المفيد لابن عثيمين (1/ 330، 2/ 506) .
وهذه الشفاعة إن كانت في الخير بجلب نفع للناس يستحقونَه ، أو دفع ضرر وقعَ عليهم ظلمًا ؛ فهي عمل صالح يؤجَر عليه الإنسان ؛ كما قال تعالى: ( مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا ) النساء/85.
وعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قال : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ أَوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ : ( اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا ) رواه البخاري (1432) ، ومسلم (2627).
فمعنى الحديث : أنَّ مَن شفع لأخيه المسلم شفاعة ، بأن توسَّط له عند الغير لقضاء مصلحة بجلب منفعة أو دفع مضرَّة ، فأَهْدَى المشفوع له هديَّة للشافع ، نظير هذه الشفاعة والوساطة ، فقَبِلها الشافِع ؛ فحرامٌ عليه ؛ لأنه أمرٌ يسيرٌ لا يجوز أخذ العِوَض عليه في الدنيا ، وقد أتى بابًا عظيمًا من أبواب الرِّبا .
قال العلماء : " وَذَلِكَ لأَنَّ الشَّفَاعَةَ الْحَسَنَةَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا ، وَقَدْ تَكُونُ وَاجِبَةً ، فَأَخْذُ الْهَدِيَّةِ عَلَيْهَا يُضَيِّعُ أَجْرَهَا ، كَمَا أَنَّ الرِّبَا يُضَيِّعُ الْحَلَالَ ". انتهى من "عون المعبود" (9/ 331).
وهناك وَجْهٌ آخر لجعل قبول الهديَّة على الشفاعة من الرِّبا ، وهو أنَّ " الرِّبا هو الزيادة في المال من الغير ، لا في مقابلة عِوَض ، وهذا مثله ". "سبل السلام" للصنعاني (2/ 58) ، وينظر أيضًا : "مرقاة المفاتيح" للملا علي القاري (6/2438) . يعني : أن الشافع أخذ مالاً بدون مقابل فهو يشبه المرابي الذي أخذ الزيادة بدون مقابل .
وممَّا جاء عن السلف في معنى الحديث :
قول ابن مسعود رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى عن اليهود : ( أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ) : " السُّحت : أَن تطلبَ لأخيك الْحَاجة فتُقضَى ؛ فيهدي إِلَيْك هَدِيَّة فتقبلها مِنْهُ " . تفسير الطبري (8 /433) ، ومجموع الفتاوى (31 /286).
وقد رُوي أنَّ أبا مسعود عُقْبَةُ بْنُ عمرو جاء إِلَى أَهْلِهِ فَإِذَا هَدِيَّةٌ ، فَقَالَ: " مَا هَذَا ؟ " ، فَقَالُوا : الَّذِي شَفَعْتَ لَهُ ، فَقَالَ : " أَخْرِجُوهَا ، أَتَعَجَّلُ أَجْرَ شَفَاعَتِي فِي الدُّنْيَا ؟ "مصنف ابن أبي شيبة" (21261).
وعن مَسْرُوق رحمه الله تلميذ ابن مسعود رضي الله عنه أنَّه شفعَ لرجل في حاجةٍ ، فأهدى له جاريةً ؛ فغضبَ مسروقٌ غضبًا شديدًا ، وقال : " لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَفْعَلُ هَذَا مَا كَلَّمْتُ فِي حَاجَتِك ، وَلَا أُكَلِّمُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ حَاجَتِكَ . سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ : مَنْ شَفَعَ شَفَاعَةً لِيَرُدَّ بِهَا حَقًّا أَوْ يَرْفَعَ بِهَا ظُلْمًا ، فَأُهْدِيَ لَهُ ، فَقَبِلَ ؛ فَهُوَ سُحْتٌ ". "تفسير الطبري" (8/ 432).
وقد أخذ بعض العلماء بظاهر هذا الحديث ، فمنعوا أخذ الهدية على الشفاعة ، سواء كانت الشفاعة واجبة أو غير واجبة ، وذهب آخرون إلى جواز أخذ الهدية على الشفاعة إذا كانت غير واجبة ، وحملوا هذا الحديث على : الشفاعة الواجبة - كالشفاعة عند السلطان في إنقاذ مظلوم من يد ظالم - ، أو الشفاعة المحرَّمة – كالشفاعة عند السلطان في تولية ظالم على الرَّعيَّة - .
لأنَّ الشفاعة إذا كانت في واجب فهي واجبة ، فأخذ الهديَّة في مقابلها محرَّم .
وإذا كانت في أمر محرَّم ؛ فأخذ الهديَّة في مقابلها محرَّم .
أما إذا كانت الشفاعة في أمر مباح ؛ فأخذ الهديَّة عليها مباح ؛ قالوا : لأنها مكافأة على إحسانٍ غير واجب. انظر: "سبل السلام" (2/ 58).
وقد سبق بيان ذلك في جواب السؤال رقم : (220023) .
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله : " وأما الهديَّة في الشفاعة ، مثل أن يشفع لرجل عند ولي أمر ليرفع عنه مظلمة أو يوصل إليه حقَّه ، أو يولِّيه ولاية يستحقها ، أو يستخدمه في الجند المقاتلة وهو مستحق لذلك ، أو يعطيه من المال الموقوف على الفقراء أو الفقهاء أو القرَّاء أو النُّسَّاك أو غيرهم ، وهو من أهل الاستحقاق ، ونحو هذه الشفاعة التي فيها إعانة على فعل واجب أو ترك محرَّم ؛ فهذه أيضًا لا يجوز فيها قَبول الهديَّة ، ويجوز للمهدي أن يبذل في ذلك ما يتوصَّل به إلى أخذ حقِّه أو دفع الظلم عنه .
هذا هو المنقول عن السلف والأئمَّة الأكابر .
وقد رخَّص بعضُ المتأخِّرين من الفقهاء في ذلك ، وجعل هذا من باب " الجَعالة " ، وهذا مخالف للسُّنَّة وأقوال الصحابة والأئمة .
فهو غلط ؛ لأنَّ مثل هذا العمل هو من المصالح العامَّة التي يكون القيام بها فرضًا ، إما على الأعيان وإما على الكفاية ...". انتهى من "مجموع الفتاوى" (31/ 286).
أما إذا كان كانت الهديَّة مقابل جهدٍ وعملٍ قام به الشافع ؛ فلا حرجَ في أخذها .
وقد سُئل الشيخ ابن باز رحمه الله : قمتُ بإحضار بعض الناس ؛ لكي يعملوا في إحدى دول الخليج ، أخذتُ منهم بعض النقود برضاهم ، فهل يحق لي ذلك ، وإن كان غير ذلك فماذا أفعل ؟
فأجاب : " إذا كنتَ اتفقتَ معهم على مال معلوم من بلادهم حتى توصلهم إلى الخليج ، وتقوم بما يجب من قيمة التذاكر وغير ذلك ، هذا شيء لا حرج فيه ؛ لأنَّك أديت عنهم مالاً حتى توصلهم إلى إحدى دول الخليج بسبب خدمتك لهم ، وسعيك لهم في إيصالهم إلى دول الخليج حتى يعملوا هناك .
أما إن كانت الأموال التي أخذتها من أجل الشفاعة لهم بأن يعملوا عند فلان أو عند فلان ، والنفقة على حسابهم ، لكن أعطوك المال للشفاعة عند فلان أو فلان حتى يستخدمهم ، فلا ينبغي لك أن تأخذ المال ، في الحديث : ( مَن شفع لأخيه شفاعة ، فأهدى له هديَّة ، فقد أتى بابًا عظيمًا من أبواب الربا ) ؛ فلا تأخذ عن شفاعتك مالاً .
أما إن كنتَ خدمتهم في شيء ، أعطوك المال عن خدمة ، أخذت لهم الجوازات ، تعبت لهم في الإقامة ، عملتَ لهم أعمالاً كفيتهم إياها ، وأعطوك المال لخدمتك فقط ؛ فلا نعلم حرجًا في ذلك في مقابل الخدمة التي خدمتهم إياها " انتهى من "فتاوى نور على الدرب" (19/ 291).
فالخلاصة :
أنَّ أخذ الهديَّة أو المال على الشفاعة الواجبة – لأخذ حق أو دفع ظلم - ، أو الشفاعة المحرَّمة ؛ محرَّم ، وعليه يتنزَّل الحديث المسئول عنه .
ويزداد التحريم في حقِّ الوُلاة والقُضاة والحُكَّام ؛ لأنَّ السَّعيَ في إيصال الحقِّ إلى مُستحِقِّه ودَفع الظُّلم عنه واجبٌ عليهم لا يجوز لهم أخذُ المال عليه .
فلا يجوز للوالي أو الحاكِم أو القاضي أو المدير ونحوهم قبولُ الهديَّة مُطلقًا ممَّن له عندَهم عمل أو قضية .
ينظر : "مجموع الفتاوى" (31 /286) ، و"مختصر الفتاوى المصرية" (ص 553)، و"مرقاة المفاتيح" (6 /2437)، و"نيل الأوطار" للشوكاني (8 /309).
أما أخذ الأجر أو الهدية على الشفاعة المباحة ، التي تسمَّى " ثمن الجاه " ؛ فقد اختلفَ العلماءُ فيها ؛ فذهب البعض إلى تحريمها مستدلِّين بعموم هذا الحديث .
وذهب آخرون إلى جوازها ، وأجابوا عن الحديث بأنَّه ضعيف ، وإمَّا بحمله على الشفاعة الواجبة أو الشفاعة في شيء محرَّم .
والله أعلم .
تعليق