الحمد لله.
تصفيد الشياطين في رمضان
تصفيد الشياطين في رمضان ثابتٌ في عدة أحاديث؛ منها:
ما جاء في " الصحيحين "، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ رواه البخاري (3277)، ومسلم (1079).
وفي رواية لمسلم: وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ .
ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ من شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فلم يُفْتَحْ منها بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فلم يُغْلَقْ منها بَابٌ ... الحديث، رواه الترمذي (682)، وابن ماجه (1642)، وحسَّنه الألباني في " صحيح الجامع " (759).
تصفيد الشياطين محمولٌ على حقيقته
فَتْح أبواب الجنَّة في رمضان وغَلْق أبواب النار وتصفيد الشياطين ، الصحيح أنَّه محمولٌ على حقيقته، وهو ظاهر الحديث، وأنَّ الجنَّة تُفتَح حقيقةً في رمضان، وتغلَّق أبواب النار، وتُسَلْسَل الشياطين .
فالأصل أنَّ الكلام محمولٌ على الظاهر والحقيقة، حتى يأتي دليلٌ يصرفه عن ظاهره .
قال الشيخ تقي الدين إبراهيم بن مفلح رحمه الله: "الشياطين تُسلسل وتُغَلّ في رمضان على ظاهر الحديث، أو المراد: مَرَدة الشياطين، وكذا جزمَ به أبو حاتم بن حبَّان وغيره من أهل العلم، فليس في ذلك إعدام الشرِّ؛ بل قلَّة الشرّ؛ لضعفهم، وقد أجرى الإمام أحمد هذا على ظاهره، قال عبد الله بن الإمام أحمد: قلتُ لأبي: قد نرى المجنون يُصرَع في شهر رمضان؟!
قال: هكذا جاء الحديث ولا تكلَّم في ذلك. فإنَّ أصل أحمد أن لا يتأوَّل من الأحاديث إلا ما تأوَّله السلف، وما لم يتأوَّله السلف لا يتأوله". انتهى من كتابه "مصائب الإنسان من مكائد الشيطان" (ص 144).
وقال ابن الملقن رحمه الله: "قوله: فُتِحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ ... وهو محمول على الحقيقة فيه، وفي غيره ... وقد أسلفنا أنه [ يعني: تصفيد الشياطين ] حقيقة، فيُسَلْسَلون، ويقلّ أذاهم ووَسْوَستهم، ولا يكون ذلك منهم كما هو في غير رمضان . ويدلُّ عليه ما يُذكَر من تغليل الشياطين ومرَدتهم، بدخول أهل المعاصي كلها في الطاعة، والبعد عما كانوا عليه من الشهوات، وذلك دليلٌ بيِّن" انتهى من "التوضيح لشرح الجامع الصحيح" (13/ 56).
وقد سُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: بالنسبة لأيام رمضان الجليل يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فيه تُصَفَّد الشياطين، ومع ذلك نرى أناسًا يُصرَعون في نهار رمضان؛ فكيف تُصَفَّد الشياطين وبعض الناس يُصْرَعون؟
فأجاب: "في بعض روايات الحديث: تُصَفَّد فيه مَرَدَة الشياطين أو تُغَلّ، وهي عند النسائي، ومثل هذا الحديث من الأمور الغيبية، التي موقفنا منها التسليم والتصديق، وأن لا نتكلَّم فيما وراء ذلك؛ فإنَّ هذا أسلَم لدِين المَرْء وأحسن عاقبة، ولهذا لما قال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل لأبيه: إنَّ الإنسان يُصرَع في رمضان، قال الإمام: "هكذا الحديث ولا تكلَّم في ذا، ثم إنَّ الظاهر تصفيدهم عن إغواء الناس؛ بدليل كثرة الخير والإنابة إلى الله تعالى في رمضان " انتهى من " مجموع فتاوى ابن عثيمين" (20/ 75).
وعلى هذا؛ فتصفيد الشياطين تصفيدٌ حقيقي، الله أعلم به، ولا يعني هذا انعدام تأثير الشياطين تمامًا، أو يلزم منه ألاَّ يحصل صرع أو مسّ أو شرور للإنسان، أو ينعدم وقوع المعاصي بين الناس .
بل المراد أنَّهم يضعفون في رمضان، ولا يقدرون فيه على ما يقدرون عليه في غير رمضان.
كيف تقع المعاصي في رمضان مع تصفيد الشياطين؟
قال الإمام أبو العباس القرطبي رحمه الله: "فَإِنْ قِيلَ: فنرى الشرور والمعاصي تقع في رمضان كثيرًا ، فلو كانت الشياطين مُصَفَّدة لمَا وقع شر ّ.
فالجواب من أوجه:
-
أحدها: أَنَّهَا إِنَّمَا تُغَلّ عَنْ الصَّائِمِينَ الصَّوْمَ الَّذِي حُوفِظَ عَلَى شُرُوطِهِ وَرُوعِيَتْ آدَابُهُ . أمَّا ما لم يُحافظ عليه فلا يُغَلّ عن فاعله الشيطانُ .
-
الثاني: أنَّا لو سلَّمنا أنَّها صُفِّدَت عن كلِّ صائم، لكن لا يلزم من تصفيد جميع الشياطين ألاَّ يقع شرّ؛ لأنَّ لوقوع الشرّ أسبابًا أُخَر غير الشياطين، وهي: النفوس الخبيثة، والعادات الركيكة، والشياطين الإنسيَّة .
-
والثالث: أن يكون هذا الإخبار عن غالب الشياطين والمَرَدة منهم، وأمَّا مَن ليس مِن المَرَدة فقد لا يُصَفَّد .
والمقصود: تقليل الشُّرُورِ، وهذا موجود في شهر رمضان؛ لأنَّ وقوع الشرور والفواحش فيه قليلٌ بالنسبة إلى غيره من الشهور." انتهى من "المفهِم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" (3/ 136).
الحكمة من تصفيد الشياطين في رمضان
ذكر العلماءُ من الحِكَم في تصفيد الشياطين في رمضان: تقليل شرِّهم وإغوائهم للعباد، وليمتنعوا من إيذاء المسلمين والتهويش عليهم وإفساد صومهم، وحتى لا يخلُصوا إلى ما كانوا يخلصون إليه في غير رمضان، من إضلال الناس عن الحقِّ وتثبيطهم عن الخير؛ ليُقبِل الناس على الطاعات ويبتعدوا عن المعاصي والشهوات في شهر رمضان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
" وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ تَنْبَعِثُ الْقُلُوبَ إلَى الْخَيْرِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي بِهَا وَبِسَبَبِهَا تُفَتَّحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَيُمْتَنَعُ مِنْ الشُّرُورِ الَّتِي بِهَا تُفَتَّحُ أَبْوَابُ النَّارِ، وَتُصَفَّدُ الشَّيَاطِينُ فَلَا يَتَمَكَّنُونَ أَنْ يَعْمَلُوا مَا يَعْمَلُونَهُ فِي الْإِفْطَارِ؛ فَإِنَّ الْمُصَفَّدَ هُوَ الْمُقَيَّدُ، لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ بَنِي آدَمَ بِسَبَبِ الشَّهَوَاتِ؛ فَإِذَا كَفُّوا عَنْ الشَّهَوَاتِ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ." انتهى من "مجموع الفتاوى" (14/167) .
وقال أيضا:
" وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ وَصُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ ؛ فَإِنَّ مَجَارِيَ الشَّيَاطِينِ، الَّذِي هُوَ الدَّمُ، ضَاقَتْ؛ وَإِذَا ضَاقَتْ انْبَعَثَتْ الْقُلُوبُ إلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ، الَّتِي بِهَا تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَإِلَى تَرْكِ الْمُنْكَرَاتِ الَّتِي بِهَا تُفْتَحُ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ فَضَعُفَتْ قُوَّتُهُمْ وَعَمَلُهُمْ بِتَصْفِيدِهِمْ، فَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَفْعَلُوا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ فِي غَيْرِهِ، وَلَمْ يَقُلْ إنَّهُمْ قُتِلُوا وَلَا مَاتُوا؛ بَلْ قَالَ: " صُفِّدَتْ " وَالْمُصَفَّدُ مِنْ الشَّيَاطِينِ قَدْ يُؤْذِي، لَكِنَّ هَذَا أَقَلُّ وَأَضْعَفُ مِمَّا يَكُونُ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ؛ فَهُوَ بِحَسَبِ كَمَالِ الصَّوْمِ وَنَقْصِهِ؛ فَمَنْ كَانَ صَوْمُهُ كَامِلًا: دَفَعَ الشَّيْطَانَ دَفْعًا لَا يَدْفَعُهُ دَفْعُ الصَّوْمِ النَّاقِصِ؛ فَهَذِهِ الْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ فِي مَنْعِ الصَّائِمِ مِنْ الْأَكْلِ." انتهى من "مجموع الفتاوى" (25/246) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" وقيل: في هذا " إِشَارَة إِلَى رَفْعِ عُذْرِ الْمُكَلَّفِ، كَأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: قَدْ كُفَّتِ الشَّيَاطِينُ عَنْكَ؛ فَلَا تَعْتَلَّ بِهِمْ فِي تَرْكِ الطَّاعَةِ ولا فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ " انتهى من " فتح الباري" لابن حجر (4/ 114).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
"وهَذَا مِنْ مَعُونةِ الله للمسلمين، أنْ حَبَسَ عنهم عَدُوَّهُمْ الَّذِي يَدْعو حزْبَه ليكونوا مِنْ أصحاب السَّعير، ولِذَلِكَ تَجدُ عنْدَ الصالِحِين من الرَّغْبةِ في الخَيْرِ والعُزُوْفِ عَن الشَّرِّ في هذا الشهرِ أكْثَرَ من غيره." انتهى من "مجالس شهر رمضان" لابن عثيمين (ص 8)، بتصرُّف يسير.
وينظر: "شرح صحيح البخاري" لابن بطال (4 /20)، و"إكمال المُعْلِم بفوائد مسلم" للقاضي عياض (4 /5)، و"المفهِم " لأبي العباس القرطبي (3/ 136)، و"التوضيح لشرح الجامع الصحيح " لابن الملقن (13/ 56)، و" مرقاة المفاتيح " للملا علي القاري (4/ 1364)، و" التنوير شرح الجامع الصغير" للصنعاني (2 /41).
والله أعلم .
تعليق