الحمد لله.
أولا :
الواجب على من تلبس بفعل محرم ، وهو لا يعلم بتحريمه : أن يقلع عنه فور العلم بحرمته .
فإن استدام فعله بعد العلم بحرمته : فإنه يكون كالمبتدىء ؛ لأن الاستدامة كالابتداء في مثل ذلك .
جاء في " الحاوي " - في فقه الشافعي - (7 /176) :
" استدامة الفعل كابتدائه شرعا ولسانا ؛ أما الشرع ، فقوله تعالى : ( يا أيها الذين
آمنوا آمنوا ) النساء : 136 ، أي استديموا الإيمان . وقال تعالى : ( اهدنا الصراط
المستقيم ) الفاتحة : 6 ، أي ثبتنا على الهداية إليه فاستوى حكم الابتداء
والاستدامة في الأمر والطلب " انتهى .
وقد دل على ذلك الأصل : حال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ووقوفهم عند حدود
الله ، وعدم تعديهم لأمره ونهيه :
ففي صحيح البخاري (4481) أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تَقُولُ :
لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : ( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى
جُيُوبِهِنَّ ) : أَخَذْنَ أُزْرَهُنَّ [ تعني : نساء الصحابة ] ، فَشَقَّقْنَهَا
مِنْ قِبَلِ الْحَوَاشِي ، فَاخْتَمَرْنَ بِهَا ) .
وذكر البخاري ، قبل هذه الرواية ، بعد ترجمة الباب : ( يَرْحَمُ اللَّهُ نِسَاءَ
الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلَ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ
عَلَى جُيُوبِهِنَّ شَقَّقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا ) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ
خُثَيْمٍ عَنْ صَفِيَّةَ مَا يُوَضِّحُ ذَلِكَ ، وَلَفْظُهُ " ذَكَرْنَا عِنْدَ
عَائِشَةَ نِسَاءَ قُرَيْشٍ وَفَضْلَهُنَّ ، فَقَالَتْ : إِنَّ نِسَاءَ قُرَيْشٍ
لَفُضَلَاءُ ، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْ نِسَاءِ
الْأَنْصَارِ أَشَدَّ تَصْدِيقًا بِكِتَابِ اللَّهِ وَلَا إِيمَانًا بِالتَّنْزِيلِ
، لَقَدْ أُنْزِلَتْ سُورَةُ النُّورِ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى
جُيُوبِهِنَّ فَانْقَلَبَ رِجَالُهُنَّ إِلَيْهِنَّ يَتْلُونَ عَلَيْهِنَّ مَا
أُنْزِلَ فِيهَا ، مَا مِنْهُنَّ امْرَأَةٌ إِلَّا قَامَتْ إِلَى مِرْطِهَا
فَأَصْبَحْنَ يُصَلِّينَ الصُّبْحَ مُعْتَجِرَاتٍ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِهِنَّ
الْغِرْبَانَ " وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّ نِسَاءَ
الْأَنْصَارِ بَادَرْنَ إِلَى ذَلِكَ " انتهى .
وفي مسند الإمام أحمد (12869) : عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : " كُنْتُ
أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ ، وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ ، وَسُهَيْلَ
ابْنَ بَيْضَاءَ وَنَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ عِنْدَ أَبِي طَلْحَةَ ، وَأَنَا
أَسْقِيهِمْ ، حَتَّى كَادَ الشَّرَابُ أَنْ يَأْخُذَ فِيهِمْ ، فَأَتَى آتٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ ، فَقَالَ : أَوَمَا شَعَرْتُمْ أَنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ " ،
فَمَا قَالُوا : حَتَّى نَنْظُرَ وَنَسْأَلَ . فَقَالُوا : يَا أَنَسُ ، أَكْفِئْ
مَا بَقِيَ فِي إِنَائِكَ ) ، وإسناده صحيح على شرط الشيخين ، وأصله في الصحيحين .
والأحاديث في ذلك كثيرة معلومة .
ثانيا :
تغيير المنكر واجب على كل مسلم بحسب وسعه وطاقته ، بشرط ألا يؤدي إنكاره للمنكر إلى
منكر أشد منه ، أو فتنة كبيرة , وقد سبق بيان ذلك في الفتوى رقم : (10081) .
فمن رأى منكرا وكان قادرا على تغييره ، فلم يغيره : فإنه يكون آثما ولا شك , فإن
كان تركه للتغيير كسلا أو حياء ، فإنه يكون آثما كذلك ، ولكن ليس كإثم فاعل المنكر
.
وأما إن كان تركه للتغيير من باب إقرار المنكر والرضا به ، فإنه يكون كمن فعل
المنكر ؛ لأن الرضا بالكفر كفر ، والرضا بالمعصية معصية .
جاء في " فتح الباري " لابن حجر (13/61) : ".....وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا مَشْرُوعِيَّةُ الْهَرَبِ مِنَ الْكُفَّارِ وَمِنَ الظَّلَمَةِ ، لِأَنَّ الْإِقَامَةَ مَعَهُمْ مِنْ إِلْقَاءِ النَّفْسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ , هَذَا إِذَا لَمْ يُعِنْهُمْ وَلَمْ يَرْضَ بِأَفْعَالِهِمْ ، فَإِنْ أَعَانَ أَوْ رَضِيَ فَهُوَ مِنْهُمْ " انتهى .
وقد أخرج أبو داود (4345) عَنِ الْعُرْسِ بنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي الْأَرْضِ ، كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا - وَقَالَ مَرَّةً : أَنْكَرَهَا - كَانَ كَمَنْ غَابَ عَنْهَا ، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا ، كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا " ، حسنه الألباني .
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في " جامع العلوم والحكم " (2/245):
" فمن شهد الخطيئة ، فكرهها قلبه : كان كمن لم يشهدها إذا عجز عن إنكارها بلسانه
ويده ، ومن غاب عنها فرضيها ، كان كمن شهدها ، وقدر على إنكارها ولم ينكرها ؛ لأن
الرضا بالخطايا من أقبح المحرمات ، ويفوت به إنكار الخطيئة بالقلب ، وهو فرض على كل
مسلم ، لا يسقط ، عن أحد في حال من الأحوال " انتهى .
والله أعلم .
تعليق