الحمد لله.
أولاً :
يجب أن يُعمل بشرط الواقف ، فإذا خصص الوقف بجهة من جهات البر ، أو وضع شروطا للاستحقاق فالواجب العمل بهذه الشروط ، ولا يجوز إلغاؤها ولا تغييرها .
جاء في " الموسوعة الفقهية " (6/307) : " لَوْ قَيَّدَ الْوَاقِفُ الاِنْتِفَاعَ بِالْوَقْفِ بِشُرُوطٍ مُحَدَّدَةٍ ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى شَرْطِ الْوَاقِفِ ، لأِنَّ الشُّرُوطَ الَّتِي يَذْكُرُهَا الْوَاقِفُونَ ، هِيَ الَّتِي تُنَظِّمُ طَرِيقَ الاِنْتِفَاعِ بِهِ ، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ مُعْتَبَرَةٌ مَا لَمْ تُخَالِفِ الشَّرْع " انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمين : " ويجب العمل بشرط الواقف... أي : بما شرط من وصف ، أو قيد ، أو إطلاق ، أو جهة ، أو غير ذلك ، فلا يُرجع في ذلك إلى رأي الناظر ، بل إلى ما شرط الواقف ، فيُعمل به بشرط ألاّ يخالف الشرع " انتهى من "الشرح الممتع" (11/12).
وقال البهوتي الحنبلي في "الروض المربع " (5/561) : " وإن وقف مدرسة على طائفة اختصت بهم " .
قال ابن قاسم في تعليقه عليه " (طائفة) أي : كأهل بلد أو أهل مذهب ، اختصت المدرسة بأهل البلد أو أهل المذهب ... ثم قال : إن وقف على العلماء ؛ فهم حملة الشرع أهل التفسير والحديث والفقه ، أو على المتفقهة فهم طلبة الفقه ، أو أهل الحديث فهم من اشتغل بالحديث " انتهى .
ثانيا :
يجب أن يحمل لفظ الواقف على عادته في خطابه ، ولغته التي يتكلم بها ، والعرف المستقر في بلده ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " وكلام الواقفين والحالفين والموصين ونحوهم : محمول على الحقائق العرفية ، دون اللغوية " انتهى من " الفتاوى الكبرى " (4/319) .
فإن كان صريح لفظ الواقف أو معناه ، أو كانت هناك قرينة دالة على قصر هذه الأوقاف على طلاب علم الحديث أو التفسير أو الفقه أو نحو ذلك ، فلا يجوز في هذه الحال صرف المال في إنشاء مدرسة خاصة بتحفيظ القرآن ؛ لوجوب العمل بشرط الواقف .
ثالثا :
إن لم يكن نص الواقف أو مفهومه ، دالا على علوم دينية مخصوصة كالحديث أو التفسير أو
الفقه أو نحو ذلك ، فإن صرف هذه العائدات على مدارس حفظ القرآن ، تصرف صحيح ، وليس
في ذلك مخالفة لشرط الواقف ، بل هو عمل بشرطه ؛ لأن حفظ القرآن الكريم ، رأس العلم
، وأولى ما صرفت فيه الأعمار حفظا وتعلما وتدبرا ، وهو أول ما يبتدئ به طالب العلم.
قال الخطيب البغدادي في كتابه " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع " (1/108) : "
ينبغي للطالب أن يبدأ بحفظ كتاب الله عز وجل ، إذ كان أجل العلوم وأولاها بالسبق
والتقديم " ونقل فيه قول ابن مسلم : " كنا إذا جالسنا الأوزاعي فرأى فينا حدثا،
قال: " يا غلام، قرأت القرآن؟ فإن قال: نعم، قال: اقرأ: (يوصيكم الله في أولادكم)
[النساء: 11] وإن قال: لا، قال: اذهب ، تعلم القرآن قبل أن تطلب العلم " انتهى من "
الجامع " (1/108) .
وبهذا يُعلم أن قول القائل : "حفظ القرآن ليس من العلوم الدينية" : ليس بصواب .
فإن انضم إلى حفظهم للقرآن
العناية بتفسيره وتعلم معانيه – وهو ما نوصي به - ، وتعليم الدارسين ، وتربيتهم
بطائفة صالحة من آداب الشرع وأخلاقه : فهم داخلون في شرط الواقف بالأولوية ؛ وقد
كان الصحابة رضوان الله عليهم ( يقترئون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آيات
"، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل ، قالوا:
فعلمنا العلم والعمل ) أخرجه أحمد في مسنده (5/410) .
وأخرج الطبري في تفسيره (1/35)عن ابن مسعود رضي الله عنه وصححه أنه قال: " كان
الرجل منا إذا تعلم عشر آيات ، لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن ، والعمل بهن" وصححه
الشيخ أحمد شاكر .
رابعا :
قول من قال من الفقهاء : " نص الواقف كنص الشارع " قصده بذلك : أنها كنصوص الشارع
في طرق فهمها ، من حيث العموم أو الخصوص ، أو الإطلاق أو التقييد ... ونحو ذلك ،
ولم يقصدوا أنها كنصوص الشارع في وجوب العمل بها ، فإن كلام الله لا يساويه ولا
يقاربه كلام أحد من البشر كائنا من كان .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " وقولُ الفقهاءِ: نُصوصُ الواقفِ كنُصوصِ
الشارعِ : يعني في الفَهْمِ والدلالةِ ، لا في وجوبِ العملِ " انتهى من " الفتاوى
الكبرى " (5/429) .
وقد انتقد ابن القيم رحمه
الله هذه العبارة فقال : " هذه جملةٌ من أبطلِ الكلام ، وليس لنصوص الشارع نظير من
كلام غيره أبدا ، بل نصوص الواقف يتطرق إليها التناقض والاختلاف ، ويجب إبطالها إذا
خالفت نصوص الشارع وإلغاؤها ، ولا حرمة لها حينئذ ألبتة ، ويجوز - بل يترجح -
مخالفتها إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله منها ، وأنفع للواقف والموقوف عليه " .
انتهى من " إعلام الموقعين " (3/293) .
تعليق