الحمد لله.
ورد النهي عن " الإحداث " في المدينة في عدة أحاديث ؛ منها :
عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( المَدِينَةُ ... حَرَمٌ مِنْ كَذَا إِلَى كَذَا، وَلاَ يُحْدَثُ فِيهَا حَدَثٌ ، مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا : فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) رواه البخاري ( 1867 ) ، ومسلم ( 1366 ) .
وثبت أيضا من حديث علي رضي الله عنه رواه البخاري ( 1870 ) ، ومسلم ( 1370 ) .
ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه رواه مسلم ( 1371 ) .
وهذه الأحاديث ـ كما سبق ـ وردت بلفظ ( مَنْ
أَحْدَثَ ) ، وليس بلفظ ( من أذنب ) .
وقد ذكر العلماء في معنى ( مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا ) عدة أقوال :
القول الأول : أي : من أتى إثما .
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى :
" وقوله : ( من أحدث حدثاً ، أو آوى محدثاً ) : أى أتى إثماً ، أو آوى من أتاه ،
وحماه وضمه إليه ، وهو نحو قوله تعالى فى مكة : ( وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ
بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) " .
انتهى من " إكمال المعلم " ( 4 / 486 ) .
القول الثاني :
ليس المراد منها عموم الإثم ، وإنما إثم خاص ، وهو ما يدل عليه عرف الشارع ، وعرف
الناس الذين خاطبهم الشارع في استعمال كلمة " أحدث حدثا " .
وهي تتناول أحد أمرين :
الأمر الأول : الظلم والجرائم وإثارة الفتن .
قال ابن حجر رحمه الله تعالى :
" والمراد بالحدث والمحدِث : الظلم والظالم ، على ما قيل ، أو ما هو أعم من ذلك " .
انتهى من " فتح الباري " ( 4 / 84 ) .
ومما يستشهد به على هذا المعنى حديث عَائِشَةَ
رضي الله عنها ، قَالَتْ : " لَمْ يُقْتَلْ مِنْ نِسَائِهِمْ - تَعْنِي بَنِي
قُرَيْظَةَ - إِلَّا امْرَأَةٌ ، إِنَّهَا لَعِنْدِي تُحَدِّثُ ، تَضْحَكُ ظَهْرًا
وَبَطْنًا ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْتُلُ
رِجَالَهُمْ بِالسُّيُوفِ ، إِذْ هَتَفَ هَاتِفٌ بِاسْمِهَا ، أَيْنَ فُلَانَةُ ؟
قَالَتْ: أَنَا ، قُلْتُ : وَمَا شَأْنُكِ ؟ قَالَتْ : حَدَثٌ أَحْدَثْتُهُ ،
قَالَتْ : فَانْطَلَقَ بِهَا ، فَضُرِبَتْ عُنُقُهَا ... ) .
رواه أبو داود ( 2671 ) وحسّنه الألباني في " صحيح سنن أبي داود " ( 2671 ) .
وَذُكِر أن هذا الحدث ؛ هو أنها قد قتلت رجلا من الصحابة ، ألقت عليه رحاً .
الأمر الثاني : الابتداع في الدين .
كما في حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ
فِيهِ، فَهُوَ رَدٌّ ) رواه البخاري ( 2697 ) ، ومسلم ( 1718 ) .
وكما في الحديث المشهور : ( وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ ، فَإِنَّ كُلَّ
مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ ... ) رواه أبو داود ( 4607 ) ، وصححه الألباني في " صحيح سنن
أبي داود " ( 4607 ).
فالإحداث ، على ذلك ، لا يعم كل الذنوب ؛ وإنما يعم كلِّ إحداثٍ لأمر سيء غير مشروع
، يضر بجماعة المسلمين سواء في دينهم أو في دنياهم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" وقال: ( المدينة حرم ما بين عير إلى ثور ، من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه
لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ) .
وإن كان مقصوده " بالإحداث " هنا ، أخص من معنى الإحداث بمعنى الفعل ، وإنما مقصوده
من أحدث فيها بدعة تخالف ما قد سن وشرع ، ويقال للجرائم : الأحداث ، ولفظ الإحداث
يريدون به ابتداء مالم يكن قبل ذلك " انتهى من " مجموع الفتاوى " ( 6 / 328 - 329 )
.
والقول بأنها تعم الجرائم والبدع ولا تتناول
عموم المعاصي ، هو ما رجحه الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى ؛ حيث قال :
" من أحدث فيها أي في المدينة ، " حدثا أو آوى محدثا " هنا يراد به شيئان :
الأول: البدعة : فمن ابتدع فيها بدعة ، فقد أحدث فيها ، لقول النبي صلى الله عليه
وسلم : ( كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) . فمن أحدث فيها حدثا ، أي ابتدع في دين
الله ما لم يشرعه الله ، في المدينة : فعليه لعنه الله والملائكة والناس أجمعين ،
يعني استحق أن يلعنه كل لاعن ، والعياذ بالله ، لأن المدينة مدينة السنة ، مدينة
النبوة ، فكيف يُحْدَث فيها حدثٌ مضاد لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم .
والنوع الثاني : الفتنة : أن يحدث فيها فتنة بين المسلمين ، سواء أدت إلى إراقة
الدماء ، أو إلى ما دون ذلك من العداوة والبغضاء والتشتت . فإن من أحدث هذا الحدث :
فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .
أما من أحدث معصية ، عصى الله فيها في المدينة : فإنه لا ينطبق عليه هذا الوعيد ،
بل يقال : إن السيئة في المدينة أعظم من السيئة فيما دونها ، ولكن صاحبها لا يستحق
اللعن ، وإنما الذي يستحق اللعن هو الذي أحدث فيها واحدا من أمرين : إما بدعة ،
وإما فتنة ، هذا عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " انتهى من " شرح رياض
الصالحين " ( 6 / 213 – 214).
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم : (229869)
، ورقم : (180981) .
تعليق