الحمد لله.
يا أخا الإسلام ، قبل الإجابة عن سؤالك ، أو رفع شكواك ومواساتك في حالك هذه دعوة إلى تأمل هذه الآيات الجليلة من سورة فاطر ، قال الله جل جلاله :
( يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ * وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ) .
فاعلم ـ يا عبد الله ـ أولا ، وقبل كل شيء : أن الله جل جلاله : هو الغني الحميد ، له الحمد في غناه ، وله الحمد في الأولى ، والآخرة ، والعبد فقير إلى ربه في كل حالاته ؛ فالغنى : وصفٌ ذاتي له جل جلاله ، لم يستفده من خلقه ، بل هو مفيدهم بكل خير ، رازقهم ومعطيهم كل نعمة وفضل ، فأنت ـ يا عبد الله ـ فقير إلى الله جل جلاله .
ولسنا نعني أنك فقير إليه في طعامك وشرابك ، ورزقك ، وأنفاسك ، وحياتك ، وموتك ، فهذا شأن الخلائق كلها ، حتى البهائم منها .
لكننا نعني هنا : أنك فقير إلى الله ، فقير إليه لتتأله له ، وتعبده ، وتوحده ، وتمجده ،
أنت تعبده ؛ لأنك فقير إلى هذه العبادة .
فقير إلى الإله الواحد الأحد ، الذي لا إله إلا هو ، الفرد الصمد ، الذي ليس له صاحبة ، ولا ولد ، الجليل ، الجميل ، الرحمن الرحيم :
(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) سورة الحشر/22-24 .
هو الإله الغني في كماله ، وجماله ، وجلاله ، بكل ما وصفه الواصفون ، وما لم يبلغه علم الخلائق ولا وصفهم ، لا نحصي ثناء عليه : هو غني في ذلك كله : عن عبادة من عبده ، وشكر من شكره ، فهو الإله الجليل ، ولو كفر به من كفر من أهل الأرض .
هو الغني ، فلا زوجة له ، ولا ولد ، سبحانه ، وكل ما قاله المشركون في ذلك : ظنون ، وأوهام ، وأكاذيب ، وأساطير اختلقوها ، ما أنزل الله بها من سلطان :
( أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ * قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ) يونس/66-70 .
الله ، جل جلاله ، ليس فقيرا ، فيستغني بعبادة العابدين ، فهو الغني .
والله جل جلاله ، ليس ضعيفا ، فيستقوي بعبادة العابدين ، فهو القوي :
( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ * وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ) إبراهيم/7-8 .
نعم ؛ هو الغني سبحانه ، وأنت الفقير إليه : يلم شعثك ، ويغفر ذنبك ، ويستر عيبك ، ويكشف كربك ، ويهدي قلبك ..
أنت الفقير إلى هذه الهداية : فلا يضيع قلبك بين الأرباب والشركاء ، والأنداد ، والصاحبة ، والولد ، أنت محتاج ، فقير إلى أن توحده ، ليجد قلبك أمنه ، وأمانه ، وطمأنينته .
أنت محتاج إلى هذا الإله ، فقير إليه : أن تعده لرغبتك ، ورهبتك ، ورجائك ، ومحبتك ، وخضوعك ، وتذللك .
أنت الفقير إلى الله الواحد الأحد ، وهو الله الغني ـ بكماله ـ عن العالمين .
فاسمع ، يا عبد الله ، إلى هذا الحديث القدسي الجليل ، عن رب العزة جل جلاله :
روى مسلم في صحيحه (2577) عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ:
( يَا عِبَادِي ؛ إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي ، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا !!
يَا عِبَادِي ؛ كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ !!
يَا عِبَادِي ؛ كُلُّكُمْ جَائِعٌ، إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ !!
يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ، إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ !!
يَا عِبَادِي ؛ إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ !!
يَا عِبَادِي ؛ إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي ، فَتَضُرُّونِي ، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي ، فَتَنْفَعُونِي !!
يَا عِبَادِي ؛ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ، كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا !!
يَا عِبَادِي ؛ لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا !!
يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ، فَسَأَلُونِي ، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي ، إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ !!
يَا عِبَادِي ؛ إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ ، أُحْصِيهَا لَكُمْ ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا :
فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللهَ .
وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ ) !!
إن دينك ـ يا عبد الله ـ أعز
عليك ، وعلى كل مؤمن بإله يعبده ، من أن يجعله رهنا : لإحسان من أحسن ، أو إساءة من
أساء ، لرضا من رضي ، أو سخط من سخط ، لقبول من قبل ، وإباء من أبى .
دينك ، دينك ، لحمك ، ودمك ؛ فلا تُشْرك بالله ، وإن قُتلت ، وحُرقت ، وإن أعطوك ،
أو منعوك وإن عدلوا فيك ، أو ظلموك .
دينك ، ليس محلا لهذه الخصومات ، دينك بينك وبين ربك
لا تكن إمعة ؛ إن أحسن الناس : أحسنتَ ، وإن أساؤوا أسأتَ .
بل أحسن العمل مع ربك ، ولأجل ربك ـ وحده ـ وإن أساء الناس ، أجمعون !!
أنت فقير إلى الله المنعم ، الواحد الأحد ؛ فلا تكن أول كافر به ، ولا تكن آخر
الكافرين !!
إن كفر به أهل الأرض جميعا ، فلا تكونن من الكافرين : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ ) آل عمران/102 .
أرأيت كيف أنت تغضب ، وتأسى
؛ لأنك أحسنت إلى فتاة ؛ فأساءت إليك ، ولم تحفظ الجميل!!
نعم ، وحق لك أن تأسى ، وتحزن ؛ لكن كيف برب العالمين ، وهو المحسن على الحقيقة ،
وهو المعطي على الحقيقة ، وهو الرزاق على الحقيقة ؛ ثم ها أنت ، يتسلط عليك شيطانك
، ويوسوس لك في أعظم وأجل ما فعلته في حياتك ؛ في اختيارك لدين الله الخاتم ،
وتوحيدك لربك ، وقد كنت دهرا طويلا على الشرك بالله ، ودعاء الصاحبة والولد ، وهذا
أعظم مسبة وشتم للواحد الأحد ، وأعظم كفران لنعمة المنعم جل جلاله :
( وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ
وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ * وَمَا بِكُمْ مِنْ
نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ *
ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ
يُشْرِكُونَ ) النحل/51-54 .
إن من أصول العدل الإسلامي ،
بل من أصول الفطرة السوية : أن الإنسان لا يعاقب بذنب غيره ، ولا جريرته ؛ فكل
إنسان يحمل إثم نفسه ، لا يُحمل عليه ذنبُ غيره ، وإن كان والده ، أو ولده ؛ فكيف
تريد أنت يا عبد الله ، أن تحمل على رب العالمين ، ذنب امرأة من النساء ، أو عبد من
عباده ، فتكفر برب العالمين ، بعد إذ هداك الله ، وتعود في ملة الكفر ، بعد إذ نجاك
الله منها ؟!
( قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ
كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى
رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ )
الأنعام/64 .
( مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ
عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى
نَبْعَثَ رَسُولًا ) الإسراء/15 .
( إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ
الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) الزمر/7 .
والآيات ، والنصوص الشرعية في ذلك المعنى : كثيرة جدا معلومة .
نحن نعتب عليك ـ يا عبد الله ـ أشد العتاب !!
أبعد هذا العمر كله في الإسلام ، يستزلك الشيطان ، ويهز يقينك بدينك ، وإيمانك بربك
؟!!
( قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا
وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي
اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ
إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا
لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ
وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ
الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ
الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) الأنعام/71-73 .
هل نحن في حاجة ، بعد ذلك
كله ، إلى أن ننبهك إلى أن الإحسان قيمة مطلقة في الإسلام ، أمر الله بها عباده ،
أمرا عاما ، لم يقيده بشيء :
( وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) المائدة/195 .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ) رواه مسلم في صحيحه (1955) .
هل نحن في حاجة إلى أن نذكرك
بأن حفظ الإحسان ، والوفاء بالجميل ، وشكر نعمة الخلق : هي قيمة مطلقة أيضا في
الإسلام :
قال الله تعالى : (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) الرحمن/60 .
وقد قرن النبي صلى الله عليه وسلم شكر الناس ، وحفظ جميلهم ، بشكر الله جل جلاله ؛
فمن كفر نعمةَ من أحسن إليه من الناس ، كان خليقا أن يكفر نعمة الخالق عليه ، ولا
يعرفها لربها ، ولا يقدرها قدرها .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ لَا يَشْكُرُ
اللَّهَ ) . رواه الترمذي (1954) وقال : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ، وصححه الألباني .
هل نحن في حاجة إلى أن نذكرك
بأن بر الوالدين ، ولو كانا كافرين ، قيمة مطلقة ، عظمى في دين الله جل جلاله ، أمر
بها ، وأكدها على عباده ، وقرنها بتوحيده ، والإيمان به :
(وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا
إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ
لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ
لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا
رَبَّيَانِي صَغِيرًا ) الإسراء/23-24 .
( وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى
وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ
الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ
سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) لقمان/14-15
روى البخاري (2654) ، ومسلم (87) عن أبي بكرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ
الكَبَائِرِ؟ ) ثَلاَثًا، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: (
الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ - وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا
فَقَالَ - أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ )، قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى
قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ !! " .
فانظر كيف قرر النبي صلى الله عليه وسلم ، مبلغا لشرع رب العالمين : أن أكبر
الكبائر ، وهي الجرائم العظيمة في ميزان الشرع : هي الإشراك بالله أولا ، ثم : عقوق
الوالدين ؛ أيا كانت صورة هذا العقوق !!
والأحاديث في هذا المعنى والأصل العظيم ، لا يتسع لها هذا المقام .
وحينئذ ، نقول لك :
هذه المرأة : لم تحفظ لك الجميل ، لا هي ، ولا زوجها .
هذه المرأة لم تشكرك ، ولم تقدر إحسانك إليها .
نعم ، وهذا مؤسف لنا ، مؤلم للمسلم أن يرى تلك الأخلاق في المسلمين .
لكن هذه ليست أخلاق الإسلام .
أخلاق الإسلام : هي ما أخبرناك به ، مما أمر الله به عباده ، وشرعه لهم ، وبلغه لهم
على لسان نبيه ، صلى الله عليه وسلم .
وأما أخلاق الناس ، وأعمالهم ، فإنما وبال ذلك على أنفسهم :
( إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ
بِوَكِيلٍ ) الزمر/41 .
( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ
بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) فصلت /46 .
ثم إن ما ذكرت عن هذه المرأة
: ليس هو أيضا أخلاق المسلمين بعامة ، ولو رفعت عنك النظارة السوداء ، التي جلبتها
لك محنتك مع هذه المرأة ، وجحودها لإحسانك : لو رفعتها عنك ، ونظرت بعين الإنصاف ،
لرأيت من أحوال المسلمين في بر آبائهم ، ورعايتهم ، والحرص عليهم : ما يقر عينك ،
ويثلج صدرك .
وإنا لنعلم من ذلك أمورا وأحوالا عظيمة ، نعلم من يحمل أبويه لقضاء حوائجهما ،
ونعلم من يقبل قدم والديه ، ونعلم من يفتح كفيه ، وهو رجل كبير ذو شأن ، ليحمل
الأذى الخارج من والده المريض ..
وهب أن شخصا ، أو جماعة ، أو بلدة ، أو أُمَّة قد كفروا بربهم ، وأساؤوا إلى أنفسهم
؛ فإنما وبال ذلك عليهم ، وما زال ذلك أمر الناس ، يؤمن فيهم من يؤمن ، ويكفر منهم
من يكفر ؛ وليس على الله ، ولا على رسوله ، ولا على دينه من ذلك شيء ؛ فالدين الحق
: ما شرعه الله لعباده ، وأنزله في كتابه ، وجاء به رسوله ، وليس ما يعمله الناس ،
أو يجرون عليه في معاشهم :
( وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ
فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ
وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ
عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا
قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا * رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ
اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا
يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا ) الطلاق /8-11 .
وهنا يأتي سؤالك الآخر ،
العجيب :
لماذا لم يعاقبها الله على إساءتها ؟
فنسألك نحن : لماذا لم يعجل الله العقوبة لمن كفر برب العالمين ، وأشرك به ما لم
ينزل به سلطانا ؟
لماذا لم يعاقب الله في هذه الدار : القتلة السفاحين ، الذين يريقون الدماء أنهارا
، بغير حق ؟
لماذا لم يعاقب الله من يدمرون البلاد والعباد ، بقنابلهم وأسلحتهم الفتاكة ؟
لماذا .. لماذا .. ؟
أتدري يا عبد الله ، لماذا ؟
نعم ؛ لأن هذه الدنيا ليست دار جزاء ، بل هي دار امتحان واختبار .
فمن وفى بعهده مع الله : فقد وقع أجره على الله .
ومن نقض العهد والميثاق مع رب العالمين : فهو راجع إلى ربه ، محشور إليه ؛ فمجازيه
عن كل ذلك: ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ )الزلزلة /7-8 .
وأخيرا ؛ لتعلم ـ يا عبد
الله ـ أن هذه البنت ، ليست بنتا لك في دين الله ، فلا يحل لك أن تتبناها ، بمعنى
أن تنسبها إليك ، وترثها ، وترثك . وقد سبق بيان حكم التبني في الإسلام ، في جواب
السؤال رقم : (129988).
وحينئذ ، فإذا أنت لم تصبر على أخلاقها ، ولم تكن هي مريضة مرضا تعذر به عند الله ،
وتحتمل أنت إساءتها لأجل مرضها ، وظروفها ؛ فبإمكانك أن تردها إلى مأمنها ، وأهلها
، أو أن تدعها وزوجها ، وليس عليك من أمرها شيء ، فهي ليست من أنسابك ، ولا أرحامك
، إنما هي امرأة من عُرض الناس ، قد أحسنت أنت إليها .
فإن قدرت بعد ذلك على أن توصل إليها ما يمكنك من الإحسان فهو خير ، والله يأجرك
عليه .
وإن عجزت عن ذلك ، ولم تعد تحتمل إساءتها إليك ، فدعها وشأنها ، وأقبل أنت على شأنك
، وأصلح ما بينك ، وبين ربك ، ولم يضيق الله عليك في أبواب الخير والإحسان .
ولا شك أن العفو ، والصفح ، ومواصلة الإحسان : هو المقام الأعلى ، والأرفع ، لمن
قدر عليه ، ولم يتضرر به في دينه :
( وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ
إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) البقرة/237 .
(وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ
وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ *الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ
وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ
يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) آل عمران/133-134 .
( لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ
وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا * إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ
تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ) النساء/148-149 .
( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ
عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ
وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ
وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ
نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا
حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ * عَالِمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) التغابن/14-18 .
يسر الله لك أمرك ، وشرح
صدرك للهدى ودين الحق ، وزادك إيمانا ، ويقينا ، وهدى .
والله أعلم .
تعليق