الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 - 22 نوفمبر 2024
العربية

عقد التحكيم وشروطه في الشريعة الإسلامية

238135

تاريخ النشر : 03-01-2016

المشاهدات : 21849

السؤال


ما حكم عقد التحكيم أو شرط التحكيم ؟ وهل يندرج تحت الصلح أم لا ؟

الجواب

الحمد لله.


التحكيم بين الناس في الخصومات والخلافات : مشروع بكتاب الله تعالى ، وبسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم , قال تعالى : ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ) النساء/ 35 .

وهذه أقوال أهل العلم في المسألة :
مذهب الحنفية :
يجيز فقهاء الحنفية التحكيم ، ويشترطون في المحكَّم أن يكون صالحا للقضاء، وأن يكون مسلما ، إذا كان سيحكم بين مسلمين ، وأن يكون بالغا غير محدود في قذف ، ويجيزون تحكيم الفاسق والمرأة ، خلافا للجمهور .
قال الزيلعي في " تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق " (4 / 193):
"(بَابُ التَّحْكِيمِ) : لَمَّا كَانَ الْمُحَكَّمُ مِنْ أَنْوَاعِ الْحُكَّامِ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْقَاضِي .
وَهُوَ جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ .
أَمَّا الْكِتَابُ : فَقَوْلُهُ تَعَالَى : ( فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ) [النساء: 35] ؛ نَزَلَتْ فِي تَحْكِيمِ الزَّوْجَيْنِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ : فَمَا رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تَرَكَهُمْ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ .
وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ .
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (حَكَّمَا رَجُلًا لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا فَحَكَمَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ أَوْ نُكُولٍ فِي غَيْرِ حَدٍّ وَقَوَدٍ وَدِيَةٍ عَلَى الْعَاقِلَةِ صَحَّ لَوْ صَلَحَ الْمُحَكَّمُ قَاضِيًا) ، لِمَا تَلَوْنَا وَرَوَيْنَا ، وَلِأَنَّ لَهُمَا وِلَايَةَ أَنْفُسِهِمَا ، فَصَحَّ تَحْكِيمُهُمَا ، وَيَنْفُذُ حُكْمُهُ عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَاكِمِ فِي حَقِّهِمَا .
وَشُرِطَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ الْإِقْرَارِ أَوْ النُّكُولِ ؛ لِيَكُونَ مُوَافِقًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ .
وَشُرِطَ لِنُفُوذِ حُكْمِهِ : أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ حَدٍّ وَقَوَدٍ وَدِيَةٍ عَلَى الْعَاقِلَةِ ؛ لِأَنَّ تَحْكِيمَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الصُّلْحِ بَيْنَهُمَا ، وَلَيْسَ لَهُمَا وِلَايَةٌ عَلَى دَمِهِمَا ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكَانِ إبَاحَتَهُ ، وَكَذَا لَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَى الْعَاقِلَةِ ، فَلَا يَنْفُذُ حُكْمُ مِنْ حَكَّمَاهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَلَا عَلَى الْقَاتِلِ ، لِعَدَمِ الْتِزَامِ الْعَاقِلَةِ حُكْمَهُ ، وَلِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَا عَلَى الْقَاتِلِ ، وَلَوْ ثَبَتَ الْقَتْلُ بِإِقْرَارِهِ ، أَوْ ثَبَتَ جِرَاحَتُهُ بِبَيِّنَةٍ ، وَأَرْشُهَا أَقَلُّ مِمَّا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ خَطَأً ، كَانَتْ الْجِرَاحَةُ خَطَأً أَوْ عَمْدًا ، أَوْ كَانَ قَدْرُ مَا تَتَحَمَّلُهُ ، وَلَكِنَّ الْجِرَاحَةَ كَانَتْ عَمْدًا لَا تُوجِبُ الْقِصَاصَ : نَفَذَ حُكْمُهُ عَلَيْه ِ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُهُ .
وَأَجَازَ فِي الْمُحِيطِ التَّحْكِيمَ فِي الْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ .
وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِلْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَاضِي فِيمَا بَيْنَهُمَا ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْقَاضِي، حَتَّى لَوْ حَكَّمَا كَافِرًا ، أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا ، أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ ، أَوْ صَبِيًّا : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصْلُحُ قَاضِيًا ، لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ ؛ فَكَذَا حَكَمًا.
وَإِنْ حَكَّمَا فَاسِقًا أَوْ امْرَأَةً : جَازَ ، كَمَا فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ .
وَكَذَا : الْكَافِرُ فِي حَقِّ الْكَافِرِ ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ فِي حَقِّهِ ، وَكَذَا يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ الْقَضَاءَ لِيَحْكُمَ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّة " انتهى.
مذهب المالكية :
وأما المالكية : فإنهم يجيزون تحكيم العدل المسلم الحر البالغ العاقل ، فلا يجيزون تحكيم امرأة ولا فاسق .
قال القرافي في "الذخيرة" (10 / 34):
" المبحث الثَّانِي : فِي الْوِلَايَةِ الْخَاصَّةِ ، وَهِيَ التَّحْكِيمُ .
وَفِي الْجَوَاهِرِ : جَائِزٌ فِي الْأَمْوَالِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا ، فَلَا يُقِيمُ الْمُحَكَّمُ حَدًّا ، وَلَا يُلَاعِنُ ، وَلَا يَحْكُمُ فِي قِصَاصٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ وَلَاءٍ ، لِقُصُورِ وِلَايَتِهِ وَضَعْفِهَا ، وَهَذِهِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ تَحْتَاجُ إِلَى أَهْلِيَّةٍ عَظِيمَةٍ.....
وَبِجَوَازِ التَّحْكِيمِ قَالَ الْأَئِمَّةُ ؛ لِمَا فِي النَّسَائِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - قَالَ لأبي شريح : ( إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ ؛ فَلِمَ تُكَنَّى أَبَا الْحَكَمِ ؟ قَالَ : إِنَّ قَوْمِي إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَتَوْنِي ، فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ ، فَرَضِيَ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ بِحُكْمِي . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - مَا أَحْسَنَ هَذَا !! فَمَنْ أَكْبَرُ وَلَدِكَ ؟ قَالَ : شُرَيْح . قَالَ : فَأَنت أبو شريح ) .
وَعنهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم – : (مَنْ حَكَمَ بَيْنَ اثْنَيْنِ تَرَاضَيَا ، فَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا : فَهُوَ مَلْعُونٌ) ؛ وَهُوَ دَلِيلُ الْجَوَازِ ، وَالْإِلْزَامِ ؛ وَإِلَّا لَمَا لُعِنَ ؛ لِأَنَّ لَهُمَا تَرْكَ حُكْمِهِ إِذا كَانَ جَوْرا " انتهى باختصار يسير.
مذهب الشافعية:
وأما الشافعية : فإنهم يجيزون تحكيم من يصلح للقضاء .
قال الشيرازي في "المهذب" (3 / 378) : " فإن تحاكم رجلان إلى من يصلح أن يكون حاكماً ، ليحكم بينهما : جاز ؛ لأنه تحاكم عمر وأبي بن كعب إلى زيد بن ثابت ، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم .
واختلف قوله في الذي يَلزم به حكمه ؛ فقال في أحد القولين : لا يلزم الحكم إلا بتراضيهما بعد الحكم ، وهو قول المزني رحمه الله تعالى ، لأنا لو ألزمناهما حكمه ، كان ذلك عزلاً للقضاة ، وافتياتاً على الإمام ، ولأنه لما اعتُبر تراضيهما في الحكم ، اعتُبر رضاهما في لزوم الحكم .
والثاني: أنه يلزم بنفس الحكم ، لأن من جاز حكمه ، لزم حكمه ؛ كالقاضي الذي ولاه الإمام . واختلف أصحابنا فيما يجوز فيه التحكيم ؛ فمنهم من قال يجوز في كل ما تحاكم فيه الخصمان ، كما يجوز حكم القاضي الذي ولاه الإمام ، ومنهم من قال : يجوز في الأموال ، فأما في النكاح والقصاص واللعان وحد القذف : فلا يجوز فيها التحكيم ، لأنها حقوق بنيت على الاحتياط ، فلم يجز فيها التحكيم" انتهى.
مذهب الحنابلة:
ومذهبهم في هذه المسألة يكاد يتطابق مع مذهب الشافعية .
قال ابن قدامة في "الكافي" (4 / 224): " فإن تحاكم رجلان إلى من يصلح للقضاء ، فحكماه ليحكم بينهما : جاز ؛ لما روى أبو شريح أنه قال: يا رسول الله إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني، فحكمت بينهم، فرضي علي الفريقان، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما أحسن هذا . رواه النسائي؛ ولأن عمر وأبياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، تحاكما إلى زيد بن ثابت وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم. فإذا حكم بينهما، لزم حكمه ؛ لأن من جاز حكمه، لزم، كقاضي الإمام.
فإن رجع أحد الخصمين عن تحكيمه ، قبل شروعه في الحكم ، فله ذلك؛ لأنه إنما صار حكماً لرضاه به، فاعتبر دوام الرضى .
وإن رجع بعد شروعه فيه، وقبل تمامه، ففيه وجهان:
أحدهما: له ذلك؛ لأن الحكم لم يتم، أشبه ما قبل الشروع.
والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه يؤدي إلى أن كل واحد منهما، إذا رأى من الحكم ما لا يوافقه، رجع، فيبطل المقصود بذلك.
واختلف أصحابنا فيما يجوز فيه التحكيم، فقال أبو الخطاب: ظاهر كلام أحمد أن تحكيمه يجوز في كل ما يتحاكم فيه الخصمان، قياساً على قاضي الإمام.
وقال القاضي: يجوز حكمه في الأموال الخاصة. فأما النكاح والقصاص، وحد القذف، فلا يجوز التحكيم فيها؛ لأنها مبنية على الاحتياط، فيعتبر للحكم فيها قاضي الإمام، كالحدود" انتهى.

من هذه النصوص السابقة لفقهاء المذاهب يتلخص ما يلي:
1. يجوز أن يحكِّم المتخاصمان مَنْ يحكم بينهما ، على وفق أحكام الله جل وعلا.
2. يشترط في هذا المحكَّم أن يكون : مسلما عدلا ذكرا بالغا ، عالما بأحكام الله جل وعلا.
3. إذا حكم المحكَّم بين المتخاصمين : فإن حكمه ينفذ ، ولو لم يرضيا به ، لأنه لو لم ينفذ حكمه ، كان تحكيمه عبثا.
4. اختلف العلماء فيما يحكم فيه المحكَّم فقال بعضهم: يحكم في كل شيء مما يحكم فيه القاضي ، وقال بعضهم : بل يحكم في الأموال خاصة ، وهذا الأخير هو الراجح ؛ لأن الحكم في الدماء والأعراض أمر يتطلب ولاية عظيمة ، كتلك التي تتوفر في الدولة , بالإضافة إلى أن الدول في زماننا هذا لن تسمح للأفراد بإقامة الحدود وتنفيذ القصاص من الأفراد ، لما يسببه من القلق والاضطراب والفتن ، فالأصح قصر التحكيم على باب الأموال خاصة.
وأما علاقة التحكيم بالصلح : فبعض الفقهاء قد اعتبره من باب الصلح ؛ لأنه لا يثبت جبرا , بل بتراضي الخصمين ، وهذا فيه معنى التصالح .
جاء في " العناية شرح الهداية "(7 / 316): " التَّحْكِيم صُلْح مَعْنًى ؛ حَيْثُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِتَرَاضِي الْخَصْمَيْنِ ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ " انتهى .
وجاء في " البحر الرائق شرح كنز الدقائق " (7 / 26): " ... لِأَنَّ تَحْكِيمَهُمَا بِمَنْزِلَةِ صُلْحِهِمَا" انتهى.
والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب