الحمد لله.
بداية لا بد من تقرير حقيقة مهمة وأساسية، وهي أننا اليوم حين لا نقف على خبر أصحاب الكهف في المطبوع من "الكتاب المقدس" أو غيرها من الأخبار الثابتة، فذلك لا يعني عدم وقوع الحادثة، بل الأقرب إلى المنطق العلمي في تفسير ذلك ، أن يقال : ليس كل ما ورد في القرآن الكريم ثبت أيضا فيما سبقه من الكتب، فالقرآن جاء ناسخا ومهيمنا ومضيفا، وكله حق وصدق وعدل، وليس من المنهجية العلمية في شيء أن يستدل على بطلان حدث ، بعدم ذكره في كتابين اثنين، هما التوراة والإنجيل، ولم يدَّع عاقل - فضلا عن عالم باحث - أن هذين الكتابين قد حويا جميع تاريخ أهل الأرض، أو كل الأحداث الكبرى أو المميزة عبر التاريخ، وأنه لا يمكن لأي كتاب إلهي بعدهما أن يزيد عليهما، بل نعلم أن من قصص الأنبياء ما خفي عنا علمه وخبره ، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) [غافر: 78] ؛ وحينئذ ندرك وهاء من يطعن في القرآن بهذا الوجه من الحجة الفاسدة.
أو يقال أيضا : إنه على تقدير أن يكون من شأن الكتابين السابقين أن يشتملا على أخبار الأنبياء والأمم السابقين جميعا ، وأنه لا بد أن تكون هذه القصة فيهما ؛ فلم يبق أمامنا سوى أن نقول : إن فيما بين يدي الناس منهما : نقصا، أو سقطا أو تحريفا ؛ والكتاب الخاتم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه : قد أثبت قصتهما .
ثم نقول:
قد اختلف علماء الإسلام في تأريخ حادثة فتية الكهف، المخلد ذكرها في القرآن الكريم، وذلك على أقوال .
القول الأول:
أنها وقعت قبل عهد المسيح عليه السلام، واستدلوا على ذلك بما ورد أن اليهود أوصوا بتحدي النبي صلى الله عليه وسلم بسؤاله عن خبر فتية في غابر الزمان، ولو كان هؤلاء الفتية من أتباع المسيح لما تساءلوا عنهم، لما يُعلم من عداء اليهود لأتباع المسيح، وخاصة في ذلك الزمن، واختبار أحبار اليهود لم يقصدوا به نقل الحادثة من كتابهم، بل أرادوا التحدي بمعرفة الخبر مطلقا، وأنه واقع في التاريخ، وليس أنه مثبت في التوراة.
قال وهب بن منبه:
"هم فتية من الروم دخلوا الكهف قبل المسيح، وضرب الله سبحانه على آذانهم فيه، فلما بعث المسيح عليه السلام أخبر بخبرهم. ثم بعثهم الله بعد المسيح في الفترة بينه وبين النبيّ صلّى الله عليه وسلم" انتهى من " المعارف" لابن قتيبة (1/ 54)
وعلى هذا ، فلا إشكال في تفسير سؤال أحبار يهود المدينة عنهم، فهم منهم وأتباع ديانتهم، ولكن لم يُذكروا في التوراة للفاصل الزمني بينهم وبينها ، فعلى هذا التأريخ يكون نزول التوراة متقدما على حصول تلك القصة بقرون عديدة .
يقول ابن إسحاق رحمه الله:
"حدثني رجل من أهل مكة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:
أنزل الله في النضر ثماني آيات، قول الله تعالى: (إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) وكل ما ذكر فيه الأساطير من القرآن.
فلما قال النضر ذلك، بعثوه وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهما: سلوهم عن محمد، وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفوا لهم أمره، وأخبروهم ببعض قوله، وقالوا لهم: إنكم أهل التوراة فقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، فقالت لهم أحبار يهود: سلوه عن ثلاث يأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فَرَوْا فيه رأيكم ؛ سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم، فإنه كان لهم حديث عجب ... إلخ" انتهى من "السير والمغازي" (ص: 201) .
وأسنده أيضا الطبري في "جامع البيان" (17/593)، وهو كما ترى إسناد مشتمل على راو مبهم، "رجل من أهل مكة"، فمثله يحكم العلماء بضعفه إذا أرادوا التثبيت والتشديد.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله:
"وقد ذُكر أنهم كانوا على دين عيسى ابن مريم عليه السلام، والله أعلم. والظاهر أنهم كانوا قبل ملة النصرانية بالكلية، فإنه لو كانوا على دين النصرانية ، لما اعتنى أحبار اليهود بحفظ خبرهم وأمرهم، لمباينتهم لهم... فدل هذا على أن هذا أمر محفوظ في كتب أهل الكتاب، وأنه متقدم على دين النصرانية، والله أعلم" انتهى من "تفسير القرآن العظيم" (5/ 140)
ويقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله:
"قصة أهل الكهف لها اتصال بتاريخ طور كبير من أطوار ظهور الأديان الحق، وبخاصة طور انتشار النصرانية في الأرض.
وللكهوف ذكر شائع في اللوذ إليها والدفن بها.
وقد كان المتنصرون يُضطهدون في البلاد، فكانوا يَفرون من المدن والقرى إلى الكهوف يتخذونها مساكن، فإذا مات أحدهم ، دُفن هنالك، وربما كانوا إذا قتلوهم وضعوهم في الكهوف التي كانوا يتعبدون فيها. ولذلك يوجد في رومية كهف عظيم من هذه الكهوف، اتخذه النصارى لأنفسهم هنالك، وكانوا كثيرا ما يستصحبون معهم كلبا ليدفع عنهم الوحوش من ذئاب ونحوها. وما الكهف الذي ذكره ابن عطية إلا واحد من هذه الكهوف.
غير أن ما ذكر في سبب نزول السورة من علم اليهود بأهل الكهف، وجعلهم العلم بأمرهم أمارة على نبوءة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، يبعد أن يكون أهل الكهف هؤلاء من أهل الدين المسيحي؛ فإن اليهود يتجافون عن كل خبر فيه ذكر للمسيحية، فيحتمل أن بعض اليهود أووا إلى بعض الكهوف في الاضطهادات التي أصابت اليهود، وكانوا يأوون إلى الكهوف.
ويوجد مكان بأرض سكرة قرب المرسى من أحواز تونس ، فيه كهوف صناعية حقق لي بعض علماء الآثار من الرهبان النصارى بتونس ، أنها كانت مخابئ لليهود يختفون فيها من اضطهاد الرومان القرطاجنيين لهم.
ويجوز أن يكون لأهل كلتا الملتين ، اليهودية والنصرانية ، خبر عن قوم من صالحيهم ، عرفوا بأهل الكهف ، أو كانوا جماعة واحدة ادعى أهل كلتا الملتين خبرها لصالحي ملته، وبني على ذلك اختلاف في تسمية البلاد التي كان بها كهفهم" انتهى من " التحرير والتنوير" (15/ 264)
القول الثاني:
قال أصحاب هذا القول: إنه من المؤكد أن قصة أصحاب الكهف لم ترد في التوراة والإنجيل، ولا احتمال لورودها أصلا؛ لأن أحداث القصة وقعت بعد عهد المسيح عليه السلام بوقت طويل، قدره العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله أنه في حدود سنة (237م) – كما في "التحرير والتنوير" (15/262)-، وثمة أقوال أخرى في تعيين السنة، فلن يكون ثمة احتمال لورود القصة في التوراة ولا في الإنجيل وكتب الحواريين ومشاهداتهم.
ويمكن أن يجيب أصحاب هذا القول عن دليل القول الأول بتضعيف إسناد سبب نزولها الذي رواه ابن إسحاق – كما سبق بيانه -، أو بالقول بأن سؤال أحبار اليهود عن أتباع المسيح وقع على وجه التحدي للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وفي مثل هذا الموقف يتخلى الأحبار عن حساسيتهم تجاه أتباع المسيح الموحدين، ويمكن أن يظهروا علمهم بحالهم لتحقيق غرضهم الفاسد.
يقول الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله:
"وقد حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: لقد حُدثت أنه كان على بعضهم من حداثة أسنانهم وضح الورق، وكانوا من قوم يعبدون الأوثان من الروم، فهداهم الله للإسلام، وكانت شريعتهم شريعة عيسى في قول جماعة من سلف علمائنا.
حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير، قال: حدثنا عمرو- يعنى ابن قيس الملائي- في قوله: (أن أصحاب الكهف والرقيم) كانت الفتيه على دين عيسى ابن مريم عليه السلام على الإسلام، وكان ملكهم كافرا.
وكان بعضهم يزعم أن أمرهم ومصيرهم إلى الكهف كان قبل المسيح، وإن المسيح أخبر قومه خبرهم، فإن الله عز وجل ابتعثهم من رقدتهم بعد ما رفع المسيح، في الفترة بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم، والله أعلم أي ذلك كان.
فأما الذي عليه علماء أهل الإسلام فعلى أن أمرهم كان بعد المسيح.
فأما أنه كان في أيام ملوك الطوائف، فإن ذلك مما لا يدفعه دافع من أهل العلم بأخبار الناس القديمة" انتهى من " تاريخ الرسل والملوك" (2/ 6-7)
ويقول ابن الأثير رحمه الله:
"كان أصحاب الكهف أيام ملك اسمه دقيوس، ويقال دقيانوس، وكانوا بمدينة للروم اسمها أفسوس، وملكهم يعبد الأصنام ... وكانوا من الروم، وكانوا يعبدون الأوثان، فهداهم الله، وكانت شريعتهم شريعة عيسى عليه السلام.
وزعم بعضهم أنهم كانوا قبل المسيح، وأن المسيح أعلم قومه بهم، وأن الله بعثهم من رقدتهم بعد رفع المسيح، والأول أصح" انتهى من " الكامل في التاريخ" (1/ 325)
ولكن البحث الممكن – بناء على هذا القول الثاني - هو في ورود هذه القصة في الكتب الدينية اليهودية أو النصرانية التي صنفها الأحبار والرهبان فيما بعد، أو التي حفظت بعض الأحداث والأخبار الدينية المتوالية، وهي كتب كثيرة، ومتنوعة، وفيها من الغرائب والعجائب، وفيها أيضا من الأخبار الصادقة الشيء الكثير، ولذلك كان بعض الصحابة الكرام يقرؤون فيها وينقلون عنها.
يقول الدكتور أحمد المجذوب:
"لم يرد لأصحاب الكهف ذكر في المصادر اليهودية، ولذلك فإن قصة أصحاب الكهف التي وردت في القرآن الكريم تعد من القصص القليلة التي لم يرد لها ذكر في التراث الديني لليهود، بعكس قصص القرآن الأخرى التي نجد لها ما يقابلها في قصص التوراة وغيرها من القصص الديني الذي وقعت أحداثه بعد التوراة، ثم أقحمه اليهود على كتبهم الدينية.
وعدم وجود ما يشير – ولو من بعيد – إلى قصة أصحاب الكهف في كتب اليهود ، يرجع إلى سبب واحد، وهو أن الفتية الذين قال عنهم يهود المدينة إنهم "ذهبوا في الدهر الأول" أي أصحاب الكهف، كانوا من اليهود الذين آمنوا بالمسيح عيسى بن مريم بشرا رسولا، وهو الذي بشرت به التوراة على لسان أنبياء بني إسرائيل المتعاقبين، ومهد لظهوره النبي يحيى بن زكريا (يوحنا المعمدان).
ولما كان زعماء اليهود وكذلك عامتهم يتوقعون أن يكون النبي المرتقب على شاكلة موسى وداود وسليمان، أي نبيا محاربا وقائدا عسكريا، وزعيما سياسيا يحقق لهم النصر على أعدائهم، وينكل بأعدائهم ، بل ويذبحهم، ويسبي نساءهم، وينهب أموالهم، كما هي عادة بني إسرائيل دائما، وكما تحدثت توراتهم، فإنهم – أي اليهود – أصيبوا بخيبة أمل عظيمة عندما وجدوا النبي الجديد (المسيح) يدعوهم إلى السلام والتسامح والحب والاستعداد لقيام ملكوت الله، فسخروا منه، وناصبوه العداء، وغضبوا على كل من تبعه منهم وآمن بدعوته، واعتبروه خارجا على شريعة موسى وعدوًّا لليهود ، يجب عقابه والتنكيل به، فكانوا يرجمون من تصل أيديهم إليهم من هؤلاء المؤمنين، أما من لم تصل أيديهم إليهم كأصحاب الكهف، فإنهم عاقبوهم بالتجاهل وتحريم ذكرهم، وهو ما فعلوه حين تعمدوا أن تخلو أسفارهم من أي إشارة إلى الفتية الذين ذهبوا في الدهر الأول.
ومع ذلك – طبقا لما ورد في كتب السيرة والتفسير الإسلامية – فإن الذين حرضوا مشركي قريش على توجيه بعض الأسئلة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بقصد اختبار صحة نبوته، ومن بينها السؤال الخاص بأصحاب الكهف، أو "الفتية الذين ذهبوا في الدهر الأول وما كان من أمرهم" كانوا هم يهود المدينة (يثرب)، مما يدل على أنهم كانوا يعرفون قصتهم.
وعلى أي الأحوال فإن عدم وجود قصة أصحاب الكهف في التراث اليهودي ، لا يعني أنها لم تحدث، فوجودها أو عدم وجودها لا أهمية له، خاصة بعد ما تبين من أن اليهود قد زوروا التاريخ وشوهوا وقائعه خدمة لمصالحهم، وتأييدا لمزاعمهم وافتراءاتهم، فهم معروفون بالجرأة على الحق إلى الدرجة التي لم يتورعوا معها عن الكذب على الله وتزوير كتابه المنزل على موسى عليه السلام" انتهى من "أهل الكهف في التوراة والإنجيل والقرآن" (ص57-58)
أما المصادر النصرانية -ونعني بها كتب المؤرخين من رجال الدين النصارى الأوائل - فثمة العديد من النصوص التي تثبت هذه الحادثة ووقوعها.
وأقدم ما وقفنا عليه ما كتبه بطريرك الإسكندرية سعيد بن البطريق (ت328هـ) – وهو مؤرخ مشهور لديهم - حين قال:
"وفي ثمان سنين من ملك ثاوذوسيوس الكبير ظهرت الفتية الذين كانوا هربوا من ذاكيوس الملك، واختفوا في الكهف بمدينة افسس.
وذلك أن الرعاة على طول الزمان كانوا إذا جازوا بذلك الكهف ، تولعوا بقلع الطوب المبني على باب الكهف ، حتى صار مفتوحا كالباب.
فلما انتبه الفتية توهموا أنهم نياما ليلة واحدة. فقلوا لصاحبهم الذي كان يشتري لهم الطعام: امضي واشتري لنا طعام. واستقصي عن خبر ذاكيوس الملك. فلما خرج إلى باب الكهف ونظر إلى البنيان والهدم أنكر ذلك، فنهض ومضى إلى أن انتهى إلى باب مدينة افسس، فرأى على بابها صليبا كبيرا منصوبا. فأنكر ذلك في نفسه، وقال: أحسب أني نائم، فأقبل يمسح عينيه وينظر يمين وشمال هل يرى شيئا مما يعرفه فلم يرى شيئا، فبقي متحيرا فقال في نفسه: لعلي أخطأت الطريق، أو لعل هذه المدينة ليست هي مدينة افسس.
فلما دخل المدينة دفع درهما كان معه إلى الخباز ليأخذ به خبزا. فلما نظر الخباز إلى رجل متنكر ذعر مرعوب ومعه درهم عليه صورة ذاكيوس الملك، أنكر ذلك، وتوهم أنه أصاب كنزا. فقال له: من أين لك هذا الدرهم؟ فلم يكلمه. فصاح بالناس واجتمع إليه خلق كثير فكلموه فلم يرد عليهم جواب. فمضوا به إلى البطريق رئيس المدينة اسمه انثيبطرس، وكلمه البطريق فلم يكلمه. وتهددوه فلم يتكلم. فجاء إليه مرقس أسقف المدينة وكلمه فلم يتكلم. فخوفه وقال له: إنك إن لم تتكلم وتقول لنا من أين لك هذا الدرهم وإلا قتلناك. فلم يتكلم وإنما كان يتمتنع من الكلام مخافة من ذاكيوس الملك، وأنه حي؛ لأنه كان يتوهم أنه بقاي يعيش. فضربوه فلما ألمه الضرب فقال لهم: فأين ذاكيوس الملك. فقالوا له: إن ذاكيوس الملك قد مات، وملك بعده ملوك كثيرة، وقد ظهر دين النصرانية، والملك اليوم فهو ثاودوسيوس الكبير. فسكن رعبه وأخبره بخبره ومضوا معه إلى الكهف فنظروا إلى أصحابه وأصابوا الصندوق النحاس وفي جوفه الصحيفة الرصاص والمكتوب فيها قصتهم وخبرهم من ذاكيوس الملك التي كتبها تدوس ، بطريق داكيوس الملك فكثر تعجبهم، وكتوبا إلى ثاودوسيوس الملك يعلموه بخبرهم. فركب البريد وصار إلى مدينة افسس، فنظر إليهم وكلمهم وبعد ذلك بثلاثة أيام دخل إليهم في الكهف فوجدهم قد تنيحوا. فأمر أن لا يخرجوا منه، وأن يدفنوا في ذلك الكهف، وبنى عليهم كنيسة تسمى بأسمائهم ويعيدوا لهم عيدا في كل سنة في مثل ذلك اليوم. وانصر ثاوذوسيوس الملك إلى القسطنطينية.
فمن وقت هرب الفتية من ذاكيوس الملك إلى الكهف وناموا فيه إلى الوقت الذي ظهروا فيه وماتوا على ما قرأنا في قصة شهادتهم ثلثمائة واثنتين وسبعين سنة" انتهى من "التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق، تأليف البطريرك افتيشيوس المكنى بسعيد ابن بطريق، كتبه إلى أخيه عيسى في معرفة التواريخ الكلية من عهد آدم إلى سني الهجرة الإسلامية" (ص150-151) ، مطبعة الآباء اليسوعيين ، بيروت 1905 م ، وفي النص المنقول الكثير من الأخطاء ، تركناها كما وردت في الكتاب ولم نصحح شيئا منها .
ونقل العلامة القاسمي خبرهم عن أحد بطاركة الروم الكاثوليك، واسمه مكسيموس مظلوم، (ت1855م)، وذلك جوابا على شبهة إغفال ذكرهم في التاريخ – سوى القرآن - فقال رحمه الله:
"لهؤلاء الفتية أصحاب الكهف ذكر في تواريخ المسيحيين، وعيد سنويّ يقام تذكارا لهم، في اليوم السابع والعشرين من شهر تموز. لكونهم اضطهدوا من قبل الأمراء اليونانيين، لإيمانهم بالله تعالى وحده ودخولهم في الملة المسيحية، ورفضهم الوثنية التي كانت عليها اليونان. وقد رأيت في كتاب (الكنز الثمين في أخبار القديسين) ترجمة عن أحوالهم واسعة تحت عنوان (فيما يخص السبعة القديسين الشهداء الذين من أفسس) نقتطف منها ما يأتي، دحضا لدعوى من يفتري أن نبأهم لا يعرف أصلا، كما قرأته في بعض كتب الملحدين.
قال صاحب الترجمة:
هؤلاء الشهداء السبعة كانوا إخوة بالجسد ... قربوا حياتهم ضحية من أجل الإيمان بالمسيح، بالقرب من مدينة أفسس، نحو سنة (252) مسيحية. في زمن الاضطهاد القاسي الذي صنعه ضد المسيحيين، الملك داكيوس.
وقد أجلّهم المسيحيون كشهداء حقيقيين. فيقام لهم في الكنائس مدائح تنشر فيها صفاتهم الفاضلة يوم استشهادهم ثمة، في اليوم الرابع من شهر آب، المختص بتذكار الأعجوبة التي بواسطتها قد ظهرت أجسادهم المقدسة في المغارة القريبة من مدينة أفسس...
هذا ما اقتطفناه من كتاب (الكنز الثمين) وبه تعلم ما لدى أهل الكتاب المسيحيين من الاختلاف فيهم، الذي أشار له القرآن الكريم" انتهى من "محاسن التأويل" (7/ 27)
وقد ذكر الفخر الرازي في تفسيره (21/453) عدة أقوال في تعيين زمان أصحاب الكهف ومكانهم ، ثم قال : "العلم بذلك الزمان وبذلك المكان ليس للعقل فيه مجال، وإنما يستفاد ذلك من نص، وذلك مفقود ، فثبت أنه لا سبيل إليه" انتهى .
فلا يمكن الجزم بشيء مما قيل في ذلك .
والخلاصة : أن قصة أهل الكهف ثابتة ولا ريب، وقد وردت في العديد من كتب المؤرخين النصارى، مع أن خبرهم لا يتوقف إثباته على وجود ذكرهم في شيء من الكتب، ما دام خبرهم قد ورد في القرآن الكريم.
والله أعلم.
تعليق