الحمد لله.
أولا :
إذا تاب المرتد فيما بينه وبين الله ، ولم يقبض عليه أو يُدْعَ إلى القضاء لإقامة
عقوبة الردة عليه ، فيكفيه أن ينطق بالشهادتين مع الندم على ما فات منه ، والعزم
على عدم العود إليه ، ولا يجب عليه أن يقول " أنا بريء من كل دين يخالف دين الإسلام
" ولا " أسلمت لله " ولا إقرار لفظي بما كان قد جحده .
والفقهاء حينما يذكرون هذه الأقوال ، فإنما يقصدون بذلك المؤاخذة القضائية ، بمعنى
: هل يكتفي القاضي من المرتد إذا ادعى التوبة بقوله : برئت من كل دين يخالف الإسلام
ونحو ذلك ، لدرء عقوبة القتل عنه ؟ أم يُلزم ببيانٍ أكثر من هذا ؟ وهذا معنى قولهم
" تقبل توبته " أو " لا تقبل توبته " أي قضاء .
قال ابن قدامة بعدما ذكر الخلاف في " قبول توبة " الزنديق :
" وفي الجملة فالخلاف بين الأئمة في قبول توبتهم في الظاهر من أحكام الدنيا من ترك
قتلهم وثبوت أحكام الإسلام في حقهم ، وأما قبول الله تعالى لها في الباطن وغفرانه
لمن تاب وأقلع ظاهرا وباطنا : فلا خلاف فيه فإن الله تعالى قال في المنافقين : (
إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف
يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما ) " انتهى من " المغني " (10/72) .
ثانيا :
إذا ثبتت ردة شخص بالشهود أو بالإقرار ، ثم ادعى التوبة ، فإن للقاضي أن يطالبه
بتبيين رجوعه وتوضيحه ؛ لاحتمال إتيانه بالشهادتين مع بقائه على اعتقاده ؛ إما
لمكابرته أو عدم تسليمه بكفر معتقده أو غير ذلك من الأسباب .
وحينئذ ، فمتى كانت ردته بالخروج من الإسلام رأسا ، كفاه في العودة إلى الإسلام أن
ينطق الشهادتين ، وإن كان قد انتقل إلى دين آخر : لزمه النطق بالشهادتين ؛ ثم إن
زاد بعد ذلك أن يبرأ من كل دين يخالف دين الإسلام : فهو أحسن .
وأما من كانت ردته باعتقاد ، أو قول ، أو فعل يخالف دين الإسلام ، مثل سب الله أو
سب رسوله ، أو اعتقاد تحريف كتاب الله ، أو وقوع في شيء من مكفرات الأقوال والأفعال
: فهذا يلزمه أن يتوب من هذا المكفر بعينه ، بعد أن ينطق بالشهادتين .
جاء في "الموسوعة الفقهية الكويتية" (22/192) :
" كيفية توبة المرتد:
قال الحنفية: توبة المرتد أن يتبرأ من الأديان سوى الإسلام ، أو عما انتقل إليه بعد
نطقه بالشهادتين ، ولو أتى بالشهادتين على وجه العادة ، أو بدون التبري : لم ينفعه
، ما لم يرجع عما قال ، إذ لا يرتفع بهما كفره.
وإذا نطق المرتد بالشهادتين: صحت توبته عند الحنفية، والشافعية، والحنابلة ، لقوله
عليه الصلاة والسلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال:
لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله) . متفق عليه.
وحيث إن الشهادة يثبت بها إسلام الكافر الأصلي فكذا المرتد. فإذا ادعى المرتد
الإسلام، ورفض النطق بالشهادتين، لا تصح توبته .
وصرح الحنابلة بأن المرتد إن مات ، فأقام وارثه بينة أنه صلى بعد الردة: حكم
بإسلامه .
وقال الشافعية والحنابلة: لا بد في إسلام المرتد من الشهادتين ، فإن كان كفره
لإنكار شيء آخر، كمن خصص رسالة محمد بالعرب أو جحد فرضا أو تحريما : فيلزمه مع
الشهادتين الإقرار بما أنكر .
قال الحنابلة: ولو صلى المرتد حكم بإسلامه إلا أن تكون ردته بجحد فريضة، أو كتاب،
أو نبي، أو ملك، أو نحو ذلك من البدع المكفرة التي ينتسب أهلها إلى الإسلام ، فإنه
لا يحكم بإسلامه بمجرد صلاته ؛ لأنه يعتقد وجوب الصلاة ويفعلها مع كفره.
وأما لو زكى أو صام فلا يكفي ذلك للحكم بإسلامه، لأن الكفار يتصدقون، والصوم أمر
باطن لا يعلم" انتهى .
قال ابن قدامة معلقا على قول الخرقي " ومن شهد عليه بالردة فقال : ما كفرت ، فإن
شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لم يَكْشف عن شيء " :
" لأن هذا يثبت به إسلام الكافر الأصلي ؛ فكذلك إسلام المرتد ولا حاجة مع ثبوت
إسلامه إلى الكشف عن صحة ردته ، وكلام الخرقي محمول على من كفر بجحد الوحدانية أو
جحد رسالة محمد صلى الله عليه و سلم أو جحدهما معا .
فأما من كفر بغير هذا فلا يحصل إسلامه إلا بالإقرار بما جحده " .
انتهى من " المغني " (10/92) .
وقال أيضا :
" من كفر بجحد نبي أو كتاب أو فريضة ونحوها فلا يصير مسلما بذلك [ يعني بقوله : أنا
مسلم ، أو أسلمت لله ] لأنه ربما اعتقد أن الاسلام ما هو عليه فان أهل البدع كلهم
يعتقدون أنهم هم المسلمون ومنهم من هو كافر " .
وقال :
" لو مات المرتد فأقام ورثته بينة أنه صلى بعد ردته حكم لهم بالميراث إلا أن يثبت
أنه ارتد بعد صلاته أو تكون ردته بجحد فريضة أو كتاب أو نبي أو ملك أو نحو ذلك من
البدع التي ينتسب أهلها إلى الاسلام فإنه لا يحكم بإسلامه بصلاته لأنه يعتقد وجوب
الصلاة ويفعلها مع كفره فأشبه فعله غيرها والله أعلم " ينظر " المغني " (10/93) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" كل من ارتد بقول فتوبته أن يرجع إلى الإسلام ويتوب من ذلك القول " .
انتهى من "الصارم المسلول" (302) .
وقال الشيخ ابن عثيمين شارحا قول صاحب " زاد المستقنع " :
" وَتَوْبَةُ الْمُرْتَدِّ وَكُلِّ كَافِرٍ إِسْلاَمُهُ ، بِأَنْ يَشْهَدَ أَنْ لاَ
إِلهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ ، وَمَنْ كَانَ كُفْرُهُ
بِجَحْدِ فَرْضٍ وَنَحْوِهِ فَتَوْبَتُهُ مَعَ الشَّهَادَتَيْنِ إِقْرَارُهُ
بِالْمَجْحُودِ بِهِ ، أَوْ قَوْلُهُ : أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ دِينٍ يُخَالِفُ
الإْسْلاَم " .
قال الشيخ رحمه الله :
" فهذا ينكر فرضية الصلاة ، ويقول: أشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمداً رسول
الله، فلا تصح توبته؛ لأن الشيء الذي حكمنا بردته من أجله لم يزل مصرّاً عليه ، فلا
بد أن يقر مع ذلك بما جحده من فرضية الصلاة ، فمن لم يفعل فإنه لا يزال على ردته
....
فالمهم أن القاعدة في هذا: أن الكافر الأصلي نكتفي بالشهادتين، أو على الأصح
بالشهادة الأولى، ونلزمه بالثانية.
والكافر غير الأصلي لا بد أن يتوب مما كان سبباً في الحكم عليه بالردة، مع
الشهادتين، سواء أكان جحد فرضٍ، أو جحد محرَّم، مجمع على تحريمه، أو جحد محلَّل
مجمع على حله أو ترك الصلاة، وما أشبه ذلك.
قوله : " أَوْ قَوْلُهُ : أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ دِينٍ يُخَالِفُ الإْسْلاَمَ "
هذا طريق ثانٍ للتوبة فيمن كانت ردته بجحد فرض ونحوه.
وهذه الكلمة في الواقع كلمة مجملة، لا تدل على أنه تاب توبة حقيقية؛ لأنه قد يعتقد
أن ما هو عليه هو الإسلام، وما أكثر الذين يدَّعون أنهم مسلمون، ويتبجحون بالإسلام
وهم كفار، يسبون الصحابة ، ويعتقدون أن جبريل أخطأ في الوحي ، فنزل به على محمد
صلّى الله عليه وسلّم، وقد أُمِرَ أن ينزل به على عليٍّ ـ رضي الله عنه ـ، وما أشبه
ذلك، فإذا قال: أنا بريءٌ من كل دين يخالف الإسلام، فهل نجعل ذلك توبة يرتفع بها
عنه حكم الردة أو لا ؟ في الواقع أن هذه الكلمة من المؤلف فيها نظر ظاهر؛ لأنه قد
يكون محكوماً بردته من أجل فعلٍ يعتقد هو أنه من الإسلام، وليس من الإسلام في شيء،
فمثل هذا لا نقبل منه حتى يُصَرِّح بأنه رجع عما حكمنا عليه بكفره من أجله " انتهى
من " الشرح الممتع " (14/467-469) .
والله أعلم .
تعليق