الحمد لله.
أولا:
من اجتهد في حكم مسألة وأفتى فيها، ثم تغير اجتهاده، فهل يلزمه إعلام المستفتي؟
اختلف العلماء في ذلك ، فقيل: يلزمه، وقيل: لا يلزمه.
ورجح ابن القيم رحمه الله التفصيل، فإن كان الحكم الأول مخالفا لنص الكتاب أو السنة الذي لا معارض له، أو مخالفا للإجماع، لزمه الإعلام، وإن لم يكن مخالفا لشيء من ذلك فلا يلزمه .
قال ابن القيم رحمه الله : " فإن قيل فما تقولون لو تغير اجتهاد المفتي فهل يلزمه إعلام المستفتي؟
قيل: اختُلف في ذلك ، فقيل : لا يلزمه إعلامه ؛ فإنه عمل أولا بما يسوغ له ، فإذا لم يعلم بطلانه ، لم يكن آثما، فهو في سعة من استمراره.
وقيل: بل يلزمه إعلامه؛ لأن ما رجع عنه ، قد اعتقد بطلانه ، وبان له أن ما أفتاه به ليس من الدين ، فيجب عليه إعلامه، كما جرى لعبد الله بن مسعود حين أفتى رجلا بحل أم امرأته التي فارقها قبل الدخول ، ثم سافر إلى المدينة وتبين له خلاف هذا القول، فرجع إلى الكوفة وطلب هذا الرجل ، وفرق بينه وبين أهله .
وكما جرى للحسن بن زياد اللؤلؤي لما استفتي في مسألة ، فأخطأ فيها ولم يعرف الذي أفتاه به، فاستأجر مناديا ينادي : إن الحسن بن زياد استُفتي في يوم كذا وكذا ، في مسألة فأخطأ ؛ فمن كان أفتاه الحسن بن زياد بشيء فليرجع إليه ، ثم لبث أياما لا يفتي حتى جاء صاحب الفتوى ، فأعلمه أنه قد أخطأ ، وأن الصواب خلاف ما أفتاه به.
قال القاضي أبو يعلى في كفايته : من أفتى بالاجتهاد ، ثم تغير اجتهاده : لم يلزمه إعلام المستفتي بذلك إن كان قد عمل به ، وإلا ، أعلمه.
والصواب التفصيل: فإن كان المفتي ظهر له الخطأ قطعاً ، لكونه خالف نص الكتاب أو السنة التي لا معارض لها ، أو خالف إجماع الأمة : فعليه إعلام المستفتي.
وإن كان إنما ظهر له أنه خالف مجرد مذهبه ، أو نص إمامه : لم يجب عليه إعلام المستفتي. وعلى هذا تخرّج قصة ابن مسعود رضى الله عنه ، فإنه لما ناظر الصحابة في تلك المسألة ، بينوا له أن صريح الكتاب يحرمها ، لكون الله تعالى أبهمها ، فقال تعالى: (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ) وظن عبد الله أن قوله: (الَّلاتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) راجع إلى الأول والثاني، فبينوا له أنه إنما يرجع الى أمهات الربائب خاصة، فعرف أنه الحق ، وأن القول بحلها ، خلاف كتاب الله تعالى، ففرق بين الزوجين ولم يفرق بينهما بكونه تبين له أن ذلك خلاف قول زيد أو عمرو" .
انتهى من " إعلام الموقعين " (4/224).
وهذا كما ترى في شأن العالم المجتهد.
وأما لو كان المفتي قد أفتى بغير علم واجتهاد، ثم علم الصواب ، فإنه يلزمه إعلام المستفتي.
سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : إذا أفتى الإنسان فتوى لأحدٍ من الناس ثم ذهب هذا المفتي وبعد حين من الزمن راجع هذا المفتي أقوال أهل العلم فوجد فتواه خطأ فماذا يعمل ؟ وهل عليه إثم ؟ نرجو الإفادة بهذا .
فأجاب رحمه الله تعالى: " إذا كانت الفتوى الأولى عن اجتهاد، وكان هو جديراً بأن يجتهد ، ثم بعد البحث والمناقشة تبين له خطأ اجتهاده الأول : فإنه لا شيء عليه.
وقد كان الأئمة الكبار يفعلون مثل هذا ، فتجد عن الواحد منهم في المسألة الواحدة عدة أقوال.
أما إذا كانت فتواه الأولى عن غير علم وعن غير اجتهاد ، ولكنه يظن ظنًّا ، وبعض الظن إثم، فإنه يحرم عليه أصلاً أن يفتي بمجرد الظن أو الخرص؛ لأنه إذا فعل ذلك فقد قال على الله بلا علم ، والقول على الله بلا علم من أكبر الذنوب ؛ لقوله تعالى: ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) .
وعليه أن يبحث عن الذي استفتاه حتى يخبره بأن فتواه خطأ وغلط، فإذا فعل هذا فأرجو أن يتوب الله عليه.
ومسألة الفتيا بغير علم مسألة خطيرة ، لأنه لا يضل بها المستفتي وحده ، بل ربما ينشرها المستفتي بين الناس ، ويَضِل بها فئام من الناس ، وهي خطأ وظلم" .
انتهى من " فتاوى نور على الدرب ".
ثانيا:
ينبغي أن يعلم الأصل : وهو أن الفتوى للمجتهد ، لا للمقلد، إلا عند الحاجة ، فينقل طالب العلم كلام الأئمة.
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " ما هي الشروط التي يجب أن تتوفر في المفتي ؟
فأجاب رحمه الله تعالى: الشروط في المفتي : هي أن يكون مطلعاً على غالب أقوال أهل العلم، ومطلعاً على الأدلة الشرعية في هذا الحكم الذي أفتى به .
وأما مجرد الظن والتقليد : فإنه لا يفتي به، لكن التقليد إذا كان ليس هناك مجتهد ، وليس بإمكان الإنسان أن يجتهد ، وهو من طلبة العلم الذين يعرفون ما كتبه العلماء : فلا حرج عليه أن يفتي به للضرورة" انتهى من " فتاوى نور على الدرب ".
والله أعلم.
تعليق