الحمد لله.
التفكر في الآيات الكونية والشرعية عبادة من العبادات الجليلة التي حث عليها القرآن.
قال تعالى: ( الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ) آل عمران/191 .
وقال سبحانه: (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ * وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) الرعد/2، 3 .
وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) الجاثية/12، 13 .
فهذا في التفكر في الآيات الكونية كالسموات والأرض والجبال والأنهار، ومنه التفكر في النفس، وتكوينها، وخلقها، كما قال سبحانه: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) الذاريات/21 .
وأما التفكر في الآيات الشرعية، فمنه قوله تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) ص/29 .
ومن التفكر: النظر فيما قدم الإنسان من عمل.
وقد أرشد القرآن إلى هذا بقوله: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) الحشر/18 .
وهذه محاسبة النفس ، وفيها أثر عمر رضي الله عنه المشهور:
" " حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا ، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا ، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ فِي الْحِسَابِ غَدًا ، أَنْ تُحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ ، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ " . رواه ابن أبي الدنيا في "محاسبة النفس" ص22 ، وأحمد في " الزهد " ( ص 120) ، وأبو نعيم في " الحلية " (1/52)، وضعفه الألباني في " الضعيفة " (1201)، وأبو إسحاق الحويني في " تخريجه لتفسير ابن كثير " (1/478) وقال : "وهذا سند رجاله ثقات لكنه منقطع بين ثابت بن الحجاج وعمر بن الخطاب فلم يدركه " انتهى.
وهذه المحاسبة مطلوبة قبل العمل ، وأثناءه وبعده، وفي كل وقت.
قال ابن قدامة رحمه الله : " المقام الثالث : المحاسبة بعد العمل :
قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ) [ الحشر : 18 ] .
وهذه إشارة إلى المحاسبة بعد العمل ، ولذلك قال عمر رضى الله عنه : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا .
وقال الحسن : المؤمن قوّام على نفسه ، يحاسب نفسه ، وقال : إن المؤمن يفجؤه الشيء يعجبه فيقول: والله إنى لأشتهيك وإنك لمن حاجتى، ولكن والله ما من حيلة إليك، هيهات حيل بيني وبينك ، ويفرُطُ منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول : ما أردت إلى هذا، ما لي ولهذا ؟ والله لا أعود إلى هذا أبداً إن شاء الله .
إن المؤمنين قوم أوثقهم القرآن ، وحال بينهم وبين هلكتهم ، إن المؤمن أسير في الدنيا، يسعى في فكاك رقبته ، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله عز وجل ، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه، وفى بصره، وفى لسانه، وفى جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كله .
واعلم : أن العبد كما ينبغي أن يكون له وقت في أول النهار يشارط فيه نفسه، كذلك ينبغي أن يكون له ساعة يطالب فيها نفسه في آخر النهار، ويحاسبها على جميع ما كان منها، كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كل سنة أو شهر أو يوم .
ومعنى المحاسبة أن ينظر في رأس المال ، وفى الربح، وفى الخسران لتتبين له الزيادة من النقصان، فرأس المال في دينه : الفرائض ، وربحه : النوافل والفضائل، وخسرانه : المعاصي .
فليحاسبها أولاً على الفرائض، وإن ارتكب معصية اشتغل بعقابها ومعاقبتها، ليستوفي منها ما فرط.
قيل : كان توبة بن الصمة بالرقة ، وكان محاسباً لنفسه ، فحسب يوماً فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم، فصرخ وقال : يا ويلتا ! ألقى الملك بأحد وعشرين ألف ذنب وخمسمائة ذنب ! كيف وفى كل يوم عشرة آلاف ذنب ! ! ثم خر مغشياً عليه فإذا هو ميت، فسمعوا قائلاً يقول : يا لها ركضة إلى الفردوس الأعلى !
فهكذا ينبغي للعبد أن يحاسب نفسه على الأنفاس ، وعلى معصية القلب والجوارح في كل ساعة، فإن الإنسان لو رمَى بكل معصية يفعلها حجراً في داره ، لامتلأت داره في مدة يسيرة، ولكنه يتساهل في حفظ المعاصي وهى مثبتة : ( أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ ) " انتهى من "مختصر منهاج القاصدين" (ص373) .
وبهذا تعلم أن ما تقوم به من التفكير فيما فعلت من معاص ، وما قدمت من طاعات، وما تعزم على عمله مستقبلا، كل ذلك أمر محمود مطلوب ، وهو من التفكر والتأمل، ومن المحاسبة، وليس بدعة، ولا يضر كون الصوفية أو غيرهم يفعلون ذلك .
والمهم أن يقود التأمل والتفكر إلى مزيد من الإقبال على الطاعة ، وإحسان العمل ، لا إلى اليأس والقنوط.
وينبغي أن تعلم أن التوبة ، والتأمل ومراقبة النفس ومحاسبتها : لا يستلزم طقوسا خاصة ، ولا تدريبات نفسية ، وبرمجات خاصة بذلك ، ولا يستلزم وقتا مخصوصا من ليل أو نهار ، بل متى أمكن العبد أن يخلو بربه ، ويجمع قلبه عليه ، ويناجيه ، كان هذا وقت هذه العبادات وأمثالها .
وإن كان لبعض الأوقات مزية ، فإنما هي بتخصيص الشارع ، مثل جوف الليل الآخر ، ونحوه .
والله أعلم.
تعليق