الحمد لله.
ليس من العقل ولا من الحكمة أن تنظري إلى نفسك وما فيها من رغبات هذه النظرة السلبية المقيتة، فالمسلم أكرم وأعز وأعقل من أن يعتقد في نفسه هذه الدرجة، أو يظن أن الله يريد به الخزي والذل بسبب ما تطلبه نفسه من المباحات، سواء من الطعام والشراب، أو الترفيه المباح، أو الزواج الحلال المبكر، فكلها من الحاجات الجسدية والنفسية التي ركبت في الإنسان لمصالح عديدة، وحكم جليلة، وليس لبواعث الذل والخزي التي تخشين منها.
إذا استحضرت أن الله عز وجل الذي منحك هذه الصحة والعافية، وهذه النفس الراغبة في المباح إن شاء الله، وقد أنعم عليك بما حرم آخرين منه، فلا يجدون في أنفسهم أدنى دافع لشيء من مباحات الدنيا، لا تطلب شهيتهم الطعام إطلاقا، ولا يقدرون على الزواج، ولا يجدون في شيء من محطات الدنيا لذة ولا متعة بسبب علة أو مرض، ويودون أن عافاهم الله من هذا "العزوف القسري" بأموالهم كلها، كي يعيشوا حياة طيبة معتدلة، يأخذون فيها حظ الدنيا المباح، ويؤدون حق الله وحق الآخرة = نقول : إذا استحضرت هذا الصنف من سقام البشر، علمت يقينا أنك في خير عميم من الله، وأن الواجب عليك هو الشكر والحمد، وليس التشكي أو التسخط.
ونحن نتساءل هنا: لماذا ترين الزواج في هذا السن خزيا وعارا! ولماذا حين ينعم الله علينا بنعمة الصحة والعافية نقابلها بالجحود والنكران والتأجيل والتأخير! أليس الزواج طريقا للسكن والمودة والرحمة بينك وبين زوجك. كما هو أيضا سبيل لاستقلال العيش، ومقاسمة المشاعر، والتعاون على تحقيق الأهداف، ومواجهة مصاعب هذه الحياة. فأي شيء أجمل من ذلك كي ترغبي عنه وتزهدي فيه! وإذا كانت الأعراف والعادات لم يشتهر فيها مثل هذا الزواج المبكر فلماذا لا نبتدئها نحن. ولماذا لا نقتدي بمن سلكوا هذا السبيل من الذين تزوجوا في سن مبكرة من العظماء الناجحين عبر التاريخ القديم والحديث، وهم كثر والحمد لله.
أرأيت لو حرمك الله نعمة الصحة والعافية، فلم تعودي تطلبين شيئا من مباحات الدنيا، وغدت نعم الدنيا عندك سواء وجودها وعدمها، ألن يكون ذلك علة تتطلبين لها العلاج والشفاء! وتبحثين لها عن الدواء! فلماذا لا نقدر نعمة الله علينا إلا إذا فقدناها وحرمنا منها.
والصدق نقول لك: إن النفس الأمارة بالسوء هي التي تدفعك إلى هذا التفكير السطحي، الذي يحول النعمة إلى نقمة، والصحة إلى بلاء وعلة، وإلا فالأمر أيسر من ذلك بكثير، لا يعدو كونه بحاجة إلى الإرادة الرشيدة التي تصرف هذه الحاجة النفسية أو الجسدية في دائرة "الإذن الشرعي".
وإلى هذا الباب من الترقي بالشهوة ، إلى أن تكون مسخرة لأمر الله ، مؤتمرة بأمره ، توضع حيث أذن الله ، وتمنع من حيث منع الله ؛ إلى هذا يهدي قول النبي صلى الله عليه وسلم :
( وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ ) !!
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟
قَالَ: ( أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ ؛ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ ) . رواه مسلم (1006) .
قال الإمام النووي رحمه الله :
" (وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ) هُوَ بِضَمِّ الْبَاءِ وَيُطْلَقُ عَلَى الْجِمَاعِ وَيُطْلَقُ عَلَى الْفَرْجِ نَفْسِهِ وَكِلَاهُمَا تَصِحُّ إِرَادَتُهُ هُنَا وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُبَاحَاتِ تَصِيرُ طَاعَاتٍ بِالنِّيَّاتِ الصَّادِقَاتِ فَالْجِمَاعُ يَكُونُ عِبَادَةً إِذَا نَوَى بِهِ قَضَاءَ حَقِّ الزَّوْجَةِ وَمُعَاشَرَتَهَا بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ أَوْ طَلَبَ وَلَدٍ صَالِحٍ أَوْ إِعْفَافَ نَفْسِهِ أَوْ إِعْفَافَ الزَّوْجَةِ وَمَنْعَهُمَا جَمِيعًا مِنَ النَّظَرِ إِلَى حَرَامٍ أَوَ الْفِكْرِ فِيهِ أَوِ الْهَمِّ بِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ الصَّالِحَةِ . " انتهى ، من "شرح مسلم" (7/92) .
بل وترتقين بعدها إلى مرتبة
أعلى، ودرجة أسمى، وهي احتساب يومياتك التي أكرمك الله بإباحتها في سبيل الحق
والخير والصلاح، فتقصدين بزواجك بناء الأسرة الصالحة المنتجة الفاعلة، التي تسهم في
بناء المجتمع على قيم الخير، وتقصدين بطعامك وشرابك التقوي على مواجهة مصاعب الصلاح
والنجاح، وتنوين بكل ما تتطلبه نفسك من حاجات طبيعية تهذيبها وتربيتها، لتتعلق
بعدها بخالقها، وتأخذينها بأسباب الرشد والاقتصاد كي لا تفتن بما تطلبه، وتنشغل
بملذاتها عن الغاية الأسمى التي خلقت لأجلها.
وقد ذكر ابن القيم أن من خواص المقربين انقلاب المباحات في حقهم إلى طاعات وقربات
بالنية، فليس في حقهم مباح متساوي الطرفين، بل أعمالهم راجحة. كما في "مدارج
السالكين" (1/107)، وقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال لسعد بن أبي وقاص
رضي الله عنه: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في
فيِّ امرأتك) رواه البخاري (56)، ومسلم (1628)
قال الإمام النووي رحمه الله - معلقاً على الحديث -:
"وفيه أن المباح إذا قصد به وجه الله تعالى صار طاعة ويثاب عليه، وقد نبه صلى الله
عليه وسلم على هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: (حتى اللقمة تجعلها في فيِ امرأتك)؛
لأن زوجة الإنسان هي من أخص حظوظه الدنيوية وشهواته وملاذه المباحة، وإذا وضع
اللقمة في فيها ، فإنما يكون ذلك في العادة عند الملاعبة والملاطفة والتلذذ بالمباح،
فهذه الحالة أبعد الأشياء عن الطاعة وأمور الآخرة، ومع هذا فأخبر صلى الله عليه
وسلم أنه إذا قصد بهذه اللقمة وجه الله تعالى حصل له الأجر بذلك، فغير هذه الحالة
أولى بحصول الأجر إذا أراد وجه الله تعالى.
ويتضمن ذلك أن الإنسان إذا فعل شيئا أصله على الإباحة ، وقصد به وجه الله تعالى :
يثاب عليه، وذلك كالأكل بنية التقوي على طاعة الله تعالى، والنوم للاستراحة ليقوم
إلى العبادة نشيطا، والاستمتاع بزوجته وجاريته ليكف نفسه وبصره ونحوهما عن الحرام،
وليقضي حقها، وليحصل ولدا صالحا، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وفي بُضعِ
أحدِكم صدقة) والله أعلم" انتهى من "شرح مسلم" (11/77)
ويقول السيوطي رحمه الله:
"ومن أحسن ما استدلوا به على أن العبد ينال أجرًا بالنية الصالحة في المباحات
والعادات قوله صلى الله عليه وسلم: (ولكل امرئ ما نوى)، فهذه يثاب فاعلها إذا قصد
بها التقرب إلى الله، فإن لم يقصد ذلك فلا ثواب له" انتهى من "شرح السيوطي على
النسائي" (1/19)
حتى شهوة النوم، يمكن للمسلم أن يجعلها طاعة يثاب عليها، حين يحتسب نومه في سبيل
الله، فينوي به الاستراحة لاستكمال مشوار العلم والعمل، ويحتسب فيه الاستعانة على
قوة الفكر والبدن، كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: (أَمَّا أَنَا فَأَنَامُ
وَأَقُومُ، فَأَحْتَسِبُ نَوْمَتِي كَمَا أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي) رواه البخاري
(4344) .
يقول الملا علي القاري رحمه الله:
"إذا قصد بالنوم زوال التعب للقيام إلى العبادة عن نشاط كان النوم طاعة، وعلى هذا
الأكل وجميع المباحات، قلت: ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات)
وقول بعضهم: نوم العالم عبادة. وقول آخرين: نوم الظالم عبادة" انتهى من "مرقاة
المفاتيح" (3/ 1238)
والخلاصة :
أن الابتلاء بالقوة البدنية ليس إذلالا ولا استدراجا، وإنما هو نعمة حقيقية إذا
توجهت للمباح، واستغلت في طاعة الله، واحتسبت مقاصدها ونيتها لوجه الله. أما إذا
صرفت في غير مستحقها الديني والأخلاقي، أو في وجه محرم من وجوه استعمالها، فهي نقمة
وسوءة تقتضي التوبة والاستغفار وتجديد العهد مع الله.
وليس عليك من حرج ، ولا عيب ، ولا ذم : في أن توحي إلى والديك ، أو والدتك على وجه
الخصوص ، إلى أنك مهيأة لفكرة الزواج ، قابلة لها ، متى ما جاء الباب المناسب لها ،
والاختيار الموفق .
وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم : (225012)
، ورقم
(20161)
، ورقم
: (127165) .
والله أعلم.
تعليق