الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 - 22 نوفمبر 2024
العربية

مذهب ابن حزم فيمن أكل شاكا ثم تبين له طلوع الفجر وفيمن أفطر عامدا هل يقضي؟

255189

تاريخ النشر : 04-11-2016

المشاهدات : 10835

السؤال


قال ابن حزم في " المحلى " : " وَهَذَا نَصُّ مَا قُلْنَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ الْوَطْءَ وَالْأَكْلَ وَالشُّرْبَ إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ لَنَا الْفَجْرُ، وَلَمْ يَقُلْ تَعَالَى: حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ ... " . ما الفرق بين تبيّن الفجر وطلوع الفجر ؟ وما هي طرق تبيّن الفجر في وقتنا الراهن ؟ ألا يعتبر طلوع الفجر موجبا للإمساك ؟ ماذا يقصد ابن حزم رحمه الله بعبارة ولا يقدر على القضاء ؟ عندما تكلم عمن أكل شاكّا في غروب الشمس ؟

الجواب

الحمد لله.


أولا:
قال ابن حزم رحمه الله : " فمن رأى الفجر وهو يأكل ، فليقذف ما في فمه من طعام أو شراب، وليصم، ولا قضاء عليه؛ ومن رأى الفجر وهو يجامع ، فليترك من وقته، وليصم، ولا قضاء عليه ؛ وسواء في كل ذلك كان طلوع الفجر بعد مدة طويلة أو قريبة ، فلو توقف باهتا فلا شيء عليه، وصومه تام ؛ ولو أقام عامدا فعليه الكفارة.
ومن أكل شاكا في غروب الشمس ، أو شرب ، فهو عاص له تعالى، مفسد لصومه، ولا يقدر على القضاء؛ فإن جامع شاكا في غروب الشمس ، فعليه الكفارة .
برهان ذلك: قول الله عز وجل: (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل) [البقرة: 187] .
وهذا نص ما قلنا، لأن الله تعالى أباح الوطء والأكل والشرب إلى أن يتبين لنا الفجر، ولم يقل تعالى: حتى يطلع الفجر، ولا قال: حتى تشكوا في الفجر؛ فلا يحل لأحد أن يقوله، ولا أن يوجب صوما بطلوعه ما لم يتبين للمرء ، ثم أوجب الله تعالى التزام الصوم إلى الليل" .
انتهى من "المحلى" (4/ 366).

ومراد ابن حزم أن الله تعالى علق الإمساك على (تبين) الفجر، فالعبرة بتبينه للإنسان، لا بطلوعه في نفس الأمر، فقد يطلع الفجر في الحقيقة، لكن ما لم يتبين للإنسان طلوعه ، برؤية الفجر الصادق، فإنه يباح له الأكل والشرب.
ولو شك هل طلع الفجر أو لا ؟ فلا عبرة بشكه، بل يأكل ويشرب حتى يتبين له الفجر.

وقول ابن حزم بجواز الأكل والشرب حتى مع الشك في طلوع الفجر إلى أن يتبين طلوعه، موافق للجمهور، خلافا للمالكية، فإنهم قالوا: إن من أكل شاكا في طلوع الفجر فعليه القضاء والحرمة.
وينظر: "الشرح الكبير" للدردير (1/ 526)، "الموسوعة الفقهية" (26/ 196).

ثم إن ابن حزم خالف الجمهور ، فيما إذا أكل أو شرب ثم تبين له أن أكله كان بعد طلوع الفجر، فالجمهور على أنه يلزمه القضاء.
وابن حزم يرى أنه لا قضاء عليه ، وهو ما ذهب إليه جماعة من السلف ، واختاره ابن تيمية رحمه الله.
وفي "الفتاوى الكبرى" لابن تيمية (2/ 469): " سئل رحمه الله تعالى ، عما إذا أكل بعد أذان الصبح في رمضان ، ماذا يكون ؟
فأجاب : الحمد لله . أما إذا كان المؤذن يؤذن قبل طلوع الفجر ، كما كان بلال يؤذن قبل طلوع الفجر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم . وكما يؤذن المؤذنون في دمشق وغيرها قبل طلوع الفجر ، فلا بأس بالأكل والشرب بعد ذلك بزمن يسير .
وإن شك : هل طلع الفجر ؟ أو لم يطلع ؟ فله أن يأكل ويشرب حتى يتبين الطلوع .
ولو علم بعد ذلك أنه أكل بعد طلوع الفجر ، ففي وجوب القضاء نزاع .
والأظهر أنه لا قضاء عليه ، وهو الثابت عن عمر ، وقال به طائفة من السلف والخلف ، والقضاء هو المشهور في مذهب الفقهاء الأربعة ، والله أعلم" انتهى.

وقد حكى النووي رحمه الله خلاف العلماء في هذه المسألة ، وبين دليل الجمهور على وجوب القضاء .
قال النووي رحمه الله": " فرع في مذاهب العلماء في مسائل تقدمت ، منها: إذا أكل أو شرب أو جامع ظانا غروب الشمس ، أو عدم طلوع الفجر ، فبان خلافه ، فقد ذكرنا أن عليه القضاء ، وبه قال ابن عباس ومعاوية بن أبي سفيان وعطاء وسعيد بن جبير ومجاهد والزهري والثوري ، كذا حكاه ابن المنذر عنهم ، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد وأبو ثور والجمهور.
وقال إسحاق بن راهويه وداود: صومه صحيح ولا قضاء، وحكي ذلك عن عطاء وعروة بن الزبير والحسن البصري ومجاهد، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم : (إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) . رواه البيهقي في غير هذا الباب بأسانيد صحيحة من رواية ابن عباس.
واحتج أصحابنا بقوله تبارك وتعالى : (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل) ، وهذا قد أكل في النهار .
وبما رواه البيهقي بإسناده عن ابن مسعود : " أنه سئل عن رجل تسحر ، وهو يرى أن عليه ليلا، وقد طلع الفجر ؟ فقال : من أكل من أول النهار فليأكل من آخره ، ومعناه فقد أفطر " .
وروى البيهقي معناه عن أبي سعيد الخدري .
وبحديث هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت : أفطرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غيم ، ثم طلعت الشمس .
قيل لهشام : فأمروا بالقضاء ؟
فقال : لا بد من قضاء .
رواه البخاري في صحيحه .
وروى الشافعي عن مالك بن أنس الإمام ، عن زيد بن أسلم عن أخيه خالد بن أسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " أفطر في رمضان في يوم ذي غيم ، ورأى أنه قد أمسى وغابت الشمس ، فجاءه رجل فقال : يا أمير المؤمنين ، قد طلعت الشمس ، فقال عمر رضي الله عنه : الخطب يسير ، وقد اجتهدنا " .
قال البيهقي : قال مالك والشافعي : معنى ( الخطب يسير ) قضاء يوم مكانه .
قال البيهقي : رواه سفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم عن أخيه عن أبيه عن عمر رضي الله عنه.
قال : وروي أيضا من وجهين آخرين عن عمر ؛ مفسَّرا في القضاء .
ثم ذكره البيهقي بأسانيده عن عمر رضي الله عنه ، وفيه التصريح بالقضاء .
فأحد الوجهين عن علي بن حنظلة عن أبيه ، وكان أبوه صديقا لعمر ، قال : " كنت عند عمر رضي الله عنه في رمضان فأفطر وأفطر الناس ، فصعد المؤذن ليؤذن ، فقال : أيها الناس هذه الشمس لم تغرب ، فقال عمر رضي الله عنه : من كان أفطر فليصم يوما مكانه " .
وفي الرواية الأخرى : فقال عمر : لا نبالي ، والله نقضي يوما مكانه .
ثم قال البيهقي : وفي تظاهر هذه الروايات عن عمر رضي الله عنه في القضاء ، دليل على خطأ رواية زيد بن وهب في ترك القضاء .
ثم روى البيهقي ذلك بإسناده عن يعقوب بن سفيان الحافظ ، عن عبيد الله بن موسى عن شيبان عن الأعمش عن المسيب بن رافع عن زيد بن وهب قال : " بينما نحن جلوس في مسجد المدينة في رمضان والسماء متغيمة ، فرأينا أن الشمس قد غابت وأنا قد أمسينا ، فأُخرجت لنا عِساسٌ من لبن ، من بيت حفصة ، فشرب عمر رضي الله عنه ، وشربنا ، فلم نلبث أن ذهب السحاب وبدت الشمس ، فجعل بعضنا يقول لبعض : نقضي يومنا هذا ، فسمع بذلك عمر فقال : والله لا نقضيه ، وما تجانفنا الإثم ".
قال البيهقي : كذا رواه شيبان ، ورواه حفص بن عتاب وأبو معاوية عن الأعمش عن زيد بن وهب .
قال البيهقي : وكان يقول ابن سفيان يحمل على زيد بن وهب بهذه الرواية المخالفة للروايات المتقدمة وبعدها مما خولف فيه .
قال البيهقي : " وزيد ثقة إلا أن الخطأ غير مأمون " ، والله تعالى يعصمنا من الزلل والخطأ بمنه وسعة رحمته .
ثم روى البيهقي بإسناده عن شعيب بن عمرو بن سليم الأنصاري قال : " أفطرنا مع صهيب الخير في شهر رمضان في يوم غيم وطش [الطش هو المطر الضعيف] ، فبينا نحن نتعشى إذ طلعت الشمس ، فقال صهيب : طُعْمةُ الله ، أتموا صيامكم إلى الليل ، واقضوا يوما مكانه " .

قوله " عساس من لبن " بكسر العين وبسين مهملة مكررة ، وهي الأقداح ، واحدها : عُسّ ، بضم العين .

وأجاب أصحابنا عن حديث (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ) : أنه هنا محمول على رفع الإثم ؛ فإنه عام ، خص منه غرامات المُتلفات ، وانتقاض الوضوء بخروج الحدث سهوا ، والصلاة بالحدث ناسيا ، وأشباه ذلك ، فيخص هنا بما ذكرناه ، والله تعالى أعلم " .
انتهى من "المجموع" (6/ 309).

وإنما ذكرنا الكلام مع طوله لتقف على أدلة الجمهور ، وأنهم لم يذهبوا إلى وجوب القضاء هنا إلا لأدلة ظهرت لهم ، مع الجواب عن أدلة مخالفيهم.
ثانيا:
قال ابن حزم رحمه الله: " ومن أكل شاكا في غروب الشمس أو شرب ، فهو عاص له تعالى، مفسد لصومه، ولا يقدر على – القضاء".
ومعنى قوله: "ولا يقدر على القضاء" أنه لا يمكنه شرعا، ولا ينفعه، وهذا مذهب ابن حزم فيمن تعمد الفطر المحرم : أنه لا قضاء عليه ، إلا إن أفطر بتعمد القيء لورود النص فيه.
قال رحمه الله: " ويُبطل الصومَ: تعمدُ الأكل، أو تعمد الشرب، أو تعمد الوطء في الفرج؛ أو تعمد القيء؛ وهو في كل ذلك ذاكر لصومه، وسواء قل ما أكل أو كثر، أخرجه من بين أسنانه أو أخذه من خارج فمه فأكله.
وهذا كله مجمع عليه إجماعا متيقنا، إلا فيما نذكره، مع قول الله تعالى: (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل) [البقرة: 187] .
وما حدثناه حمام ثنا عبد الله بن محمد الباجي ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا حبيب بن خلف البخاري ثنا أبو ثور إبراهيم بن خالد ثنا معلى ثنا عيسى بن يونس ثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقض) .
وروينا هذا أيضا عن ابن عمر، وعلي وعلقمة".
إلى أن قال: " فمن تعمد ، ذاكرا لصومه ، شيئا مما ذكرنا : فقد بطل صومه ، ولا يقدر على قضائه ، إن كان في رمضان ، أو في نذر معين ، إلا في تعمد القيء خاصة ، فعليه القضاء .
برهان ذلك : أن وجوب القضاء في تعمد القيء : قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا قبل هذه المسألة بمسألتين ; ولم يأت في فساد الصوم بالتعمد للأكل أو الشرب أو الوطء : نص بإيجاب القضاء ، وإنما افترض تعالى رمضان - لا غيره - على الصحيح المقيم العاقل البالغ ، فإيجاب صيام غيره بدلا منه ، إيجاب شرع لم يأذن الله تعالى به ، فهو باطل .
ولا فرق بين أن يوجب الله تعالى صوم شهر مسمى ، فيقول قائل : إن صوم غيره ينوب عنه ، بغير نص وارد في ذلك ، وبين من قال : إن الحج إلى غير مكة ، ينوب عن الحج إلى مكة ، والصلاة إلى غير الكعبة ، تنوب عن الصلاة إلى الكعبة ، وهكذا في كل شيء .
قال الله تعالى : (تلك حدود الله فلا تعتدوها)، وقال تعالى : (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه).
فإن قالوا : قسنا كل مفطر بعمد ، في إيجاب القضاء ، على المتقيء عمدا ؟
قلنا : القياس كله باطل" انتهى من "المحلى" (4/ 302، 308).

والجمهور من السلف والخلف على إيجاب القضاء على من أفطر عامدا ، بأي مفطر كان.

ولا يخفى أن القياس دليل معتبر، وههنا قياسان: قياس على من قاء عمدا، وقياس على من أفطر لعذر من سفر أو مرض، فإذا وجب عليه القضاء، فإنه يجب على المتعمد من باب أولى.
قال أبو إسحاق الشيرازي في "المهذب" (1/ 183) :" ومن أفطر في رمضان بغير جماع ، من غير عذر ، وجب عليه القضاء ، لقوله صلى الله عليه وسلم : (من استقاء فعليه القضاء) ، ولأن الله تعالى أوجب القضاء على المريض والمسافر ، مع وجود العذر ، فلأن يجب مع عدم العذر أولى " انتهى.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب