الحمد لله.
أولا : تجوز صدقة التطوع على الغني، ويثاب المتصدق عليها .
قال ابن قدامة رحمه الله :
"وَكُلُّ مَنْ حُرِمَ صَدَقَةَ الْفَرْضِ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ، وَقَرَابَةِ الْمُتَصَدِّقِ، وَالْكَافِرِ، وَغَيْرِهِمْ : يَجُوزُ دَفْعُ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ إلَيْهِمْ ، وَلَهُمْ أَخْذُهَا" انتهى من "المغني" (4/114) .
وقال النووي رحمه الله :
"تحل صدقة التطوع للأغنياء بلا خلاف ، فيجوز دفعها إليهم ، ويثاب دافعها عليها . ولكن المحتاج أفضل" انتهى من "المجموع" (6/236) .
وبناء على هذا ؛ فمن تصدق على امرأة لا زوج لها ، وعلى أيتام : فهو مثاب على هذه الصدقة، وله أجر عليها ، ولو كانت المرأة والأيتام أغنياء .
والصدقة على الأيتام مرغب فيها ، وفيها أجر كبير ولو كانوا أغنياء ، قال تعالى : ( قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) البقرة : 212 .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
"يجب أن نعلم أن الزكاة ليست للأيتام ، الزكاة للفقراء والمساكين وبقية الأصناف ، واليتيم قد يكون غنيًّا ، قد يترك له أبوه مالاً يغنيه ، وقد يكون له راتب من الضمان الاجتماعي أو غيره يستغني به .
ولهذا نقول : يجب على ولي اليتيم ألا يقبل الزكاة، إذا كان عند اليتيم ما يغنيه .
أما الصدقة فإنها مستحبة على اليتامى وإن كانوا أغنياء " انتهى ، من "مجموع فتاوى ابن عثمين" (18/307) .
ثانيا :
روى البخاري (5038) ومسلم (2982) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَوْ الْقَائِمِ اللَّيْلَ ، الصَّائِمِ النَّهَارَ) .
والنبي صلى الله عليه وسلم إنما ذكر هنا الأرملة والمسكين ، ولم يذكر اليتيم .
وإنما ورد ذكر اليتيم في أحاديث أخرى ، منها :
قوله صلى الله عليه وسلم : (وَأَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا - وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا) رواه البخاري ( 4998 ) من حديث سهل بن سعد ، ورواه مسلم ( 2983 ) من حديث أبي هريرة بلفظ قريب .
والمراد بالأرملة : المرأة الفقيرة التي لا زوج لها .
والمراد بالسعي عليها : الإنفاق عليها، والقيام بأمرها .
قال النووي رحمه الله في "شرح صحيح مسلم" (9/366) :
"قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَة وَالْمِسْكِين كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيل اللَّه)
الْمُرَاد بِالسَّاعِي الْكَاسِب لَهُمَا : الْعَامِل لِمَئُونَتِهِمَا .
وَالْأَرْمَلَة مَنْ لَا زَوْج لَهَا ، سَوَاء كَانَتْ تَزَوَّجَتْ أَمْ لَا ، وَقِيلَ : هِيَ الَّتِي فَارَقَتْ زَوْجهَا . قَالَ اِبْن قُتَيْبَة : سُمِّيَتْ أَرْمَلَة لِمَا يَحْصُل لَهَا مِنْ الْإِرْمَال ، وَهُوَ الْفَقْر وَذَهَاب الزَّاد بِفَقْدِ الزَّوْج ، يُقَال أَرْمَلَ الرَّجُل إِذَا فَنِيَ زَاده" انتهى .
قَالَ الْقَارِي في "مرقاة المصابيح" (7/2001) تعليقا على كلام النووي : "وَهَذَا مَأْخَذٌ لَطِيفٌ فِي إِخْرَاجِ الْغَنِيَّةِ مِنْ عُمُومِ الْأَرْمَلَةِ ، وإِنْ كَانَ ظَاهِرُ إِطْلَاقِ الْحَدِيثِ يَعُمُّ الْغَنِيَّةَ وَالْفَقِيرَةَ" انتهى .
وقَالَ الطِّيبِيُّ : "وَإِنَّمَا كَانَ مَعْنَى السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ، مَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَّاهُ بِعَلَى، مُضَمِّنًا فِيهِ مَعْنَى الْإِنْفَاقِ" انتهى من "تحفة الأحوذي" .
وفي "تاج العروس" (29/101) :
"أَرْمَلَتِ الْمَرْأَةُ : صارتْ أَرْمَلَةً مِن زَوْجِها ، ولا يكونُ إلا مع حَاجَةٍ ، كما في الأَساسِ" انتهى .
والحاصل :
أن المراد بـ"الأرملة" هنا ، فيما يظهر : الفقيرةُ ، خاصةً ، ممن لا زوج لها ، وهي التي تحتاج إلى من "يسعى عليها" ، ويقوم بشأنها ؛ دون من لم تكن ذلك ، ممن هي مكفية بنفسها ، أو مالها ، أو من يقوم بشأنها .
وأما كفالة اليتيم: فتشمل الإنفاق عليه، وتربيته، وتعليمه، والقيام على مصالحه، وحفظ ماله .
قال النووي رحمه الله في "شرح صحيح مسلم" (9/367) :
"(كَافِل الْيَتِيم) الْقَائِم بِأُمُورِهِ مِنْ نَفَقَة وَكِسْوَة وَتَأْدِيب وَتَرْبِيَة وَغَيْر ذَلِكَ ، وَهَذِهِ الْفَضِيلَة تَحْصُل لِمَنْ كَفَلَهُ مِنْ مَال نَفْسه ، أَوْ مِنْ مَال الْيَتِيم بِوِلَايَةٍ شَرْعِيَّة" انتهى .
ويرجى لمن أنفق على يتيم -ولو كان غنيا- أن ينال ثواب كفالته ، وذلك لما سبق من أن الشرع رغب في الإنفاق على اليتيم والصدقة عليه – وإن كان غنيا – لأنه ليس المقصود من ذلك مجرد سد حاجته بالمال ، وإنما المراد العطف عليه ورحمته وتعويضه عن فقده أباه .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في تفسير قوله تعالى في سورة الفجر : (كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيم) الفجر/17.
قال : "واليتيم يشمل الفقير من اليتامى والغني، يعني: حتى الغني من اليتامى ينبغي الإحسان إليه وإكرامه؛ لأنه انكسر قلبه بفقد أبيه ومن يقوم بمصالحه، فأوصى الله تعالى به حتى يزول هذا الكسر الذي أصابه" انتهى .
وقد ذكر بعض العلماء أن مما يدخل في معنى "كفالة اليتيم" : تنمية ماله .
قال الذهبي رحمه الله في "الكبائر" (ص 65) - هي: "القيام بأموره، والسعي في مصالحه، من طعامه، وكسوته، وتنمية ماله إن كان له مال، وإن كان لا مال له أَنفق عليه، وكساه ابتِغاء وجه الله تعالى" انتهى .
والإنفاق عليه في معنى تنمية ماله ، فإن المنفق يحفظ لليتيم ماله كاملا ، حتى إذا كبر وجده ، ولو أنفق عليه من ماله لربما فني المال ، فيكبر اليتيم ولا مال له .
وبناء على هذا ؛
فإذا تصدقت على أرملة، وعلى أولادها اليتامى: كان لك أجر السعي على الأرملة، وأجر كفالة اليتيم ، إن شاء الله .
فإن كانت الأرملة غنية : فلك أجر على الصدقة والإحسان إليها ، والقيام على شأنها ، على كل حال.
وينظر السؤال رقم (82673) .
والله أعلم .
تعليق