الحمد لله.
أولا:
الحديث الذي ورد في سؤال الأخ الكريم أخرجه مسلم في "صحيحه" (803) من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قَالَ: "خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ، فَقَالَ:( أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ، أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ، فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ، وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ؟).
فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ نُحِبُّ ذَلِكَ.
قَالَ: (أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ) انتهى.
وقد تضمن السؤال ثلاثة مواضع :
أما الأول: وهو هل يثبت الأجر للقراءة دون التعلم، أم إنه شرط فيه التعلم؟
فجواب ذلك: أن اللفظ الوارد عند الإمام مسلم هكذا: (فيَعلم أو يَقرأ). وكلمة "أو" في الحديث لها احتمالان: أنها للشك، أو للتنويع، كما نقل القاري في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (4/1454) عن محمد بن ميرك الحنفي أنه قال :" وكلمة (أو) تحتمل: الشك، والتنويع". انتهى.
والذي رجحه الطيبي في "شرح المشكاة" (5/1634)، وابن الملك في "شرح المصابيح" (3/8) أنها للشك، وهو أولى – والله أعلم – وذلك لأن الحديث عند مسلم من رواية الفضل بن دكين عن موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر بهذا اللفظ :" فيعلم أو يقرأ "، وقد خالفه أربعة هم عبد الله بن المبارك كما عند ابن حبان في "صحيحه" (115)، وعبد الله بن وهب كما عند أبي داود في "سننه" (1456)، وعبد الله بن يزيد المقرئ كما عند الإمام أحمد في "المسند" (17408)، وعبد الله بن صالح كما عند الطبراني في "المعجم الأوسط" (3184)، فرووه جميعا عن موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر بلفظ : "فيتعلم آيتين". هكذا دون شك.
ورواية الجماعة أولى، حيث إن عبد الله بن المبارك وابن وهب أئمة كبار ثقات ، وعبد الله بن يزيد المقرئ ثقة ثبت، وعبد الله بن صالح صدوق كثير الخطأ، خاصة وأن رواية الفضل بن دكين جاء فيها كلمة "أو" المحتملة للشك.
وعلى أية حال، وسواء قلنا إن الأجر في حديث عقبة المذكور: معلق على نفس القراءة، أم قلنا: إنه معلق على تعلم هذه الآيات، وهو محتمل؛ فقد جاء في "صحيح مسلم" (802) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ما يفيد ثبوت نفس الأجر، أو قريبا منه، لمن قرأ ثلاث آيات من القرآن، إلا أنه ورد مقيدا بقراءته في الصلاة في رواية مسلم ، وورد مطلقا في رواية الدارمي (3357)، ولفظ رواية مسلم :" قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ أَنْ يَجِدَ فِيهِ ثَلَاثَ خَلِفَاتٍ عِظَامٍ سِمَانٍ؟) قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: (فَثَلَاثُ آيَاتٍ يَقْرَأُ بِهِنَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثِ خَلِفَاتٍ عِظَامٍ سِمَانٍ).
والخَلِفات: هُنَّ النوق الحوامل.
قال الطيبي في "شرح المشكاة" (5/1634): " فالمعنى: إذا تقرر ما زعمتم أنكم تحبون ما ذكرت لكم، فقد صح أن تفضلوا عليها ما أذكره لكم، من قراءة ثلاث آيات؛ لأن هذا من الباقيات الصالحات، وتلك من الزائلات الفانيات". انتهى
ثانيا:
قد يستبعد البعض ثبوت ذلك الفضل بمجرد القراءة، دون التعلم أو الحفظ.
وجواب ذلك أن ذكر الله تعالى قد ورد فيه من الفضائل ما هو معلوم لمن تدبره، ولا شك أن القرآن خير الذكر، وأن قراءة القرآن أفضل الأذكار، فلا عجب أن يرد فيها ذلك الفضل، بل ما هو أعظم منه.
ثم إن الأصل في لفظ "قرأ" إذا ورد في لسان الشرع أن يحمل على القراءة المعهودة، وهي كما قال الأصفهاني في "غريب القرآن" (ص402): " والقراءة: ضم الحروف والكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل". انتهى، وهذا هو أصل المعنى؛ فلا إشكال في حمل لفظ الحديث عليه؛ إلا إن وردت قرائن تضيف شيئا زائدا على مجرد القراءة والتلاوة.
ومن الأمثلة التي جاء فيها لفظ القراءة ومعناه مجرد القراءة:
قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعبد اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: (اقْرَأ القُرْآنَ فِي كُلِّ شَهْرٍ)، قَالَ: إِنِّي أُطِيقُ أَكْثَرَ فَمَا زَالَ، حَتَّى قَالَ: فِي ثَلاَثٍ " أخرجه البخاري(1978)، ومسلم في (1159)، وهنا المقصود به مطلق القراءة حتى ختم القرآن، قال ابن الملك في "شرح المصابيح" (2/545) : (اقرأ كلَّ يومٍ وليلةٍ جزءًا من ثلاثين جزءًا حتى تختمَ كلَّ شهرٍ خَتمةً واحدةً) انتهى.
ومع ذلك، فقد شاع في النصوص: إطلاق القراءة على حفظ القرآن، وتعلمه. واستقر في عرف السلف: أن القراء، هم الحفاظ للقرآن؛ فلا غرابة في أن يحمل النص على ذلك، وأن يكون المراد بقراءة آية، أو أكثر: تعلم ذلك، والتفقه فيه.
ومن الأمثلة التي جاء فيها فضل القراءة، ولكن عُلم بالقرائن أن الفضل ليس فقط لمجرد القراءة بل لأمر زائد على مطلق القراءة ما يلي:
قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: (اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ، اقْرَءُوا الزَّهْرَاوَيْنِ الْبَقَرَةَ، وَسُورَةَ آلِ عِمْرَانَ، فَإِنَّهُمَا تَأْتِيَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا غَيَايَتَانِ، أَوْ كَأَنَّهُمَا فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ أَصْحَابِهِمَا، اقْرَءُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا تَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ ) أخرجه مسلم في صحيحه (804)، ففي هذه الرواية: قد يُفهم ترتيب شفاعة القرآن للعبد على القراءة فقط . ويحتمل أن المراد بالقراءة فيه: الحفظ، بقرينة أنه ذكر بعدها "شفيعا لأصحابه"، ولا يطلق "صاحب القرآن على مجرد "التلاوة"، من غير حفظ له؛ بل جاءت رواية أخرى تقيد القراءة بالعمل أيضا، وهي رواية النواس بن سمعان أخرجها مسلم في صحيحه (805)، ولفظها : (يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، وَآلُ عِمْرَانَ)، وَضَرَبَ لَهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَمْثَالٍ مَا نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ، قَالَ: (كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ بَيْنَهُمَا شَرْقٌ، أَوْ كَأَنَّهُمَا حِزْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا) ولذا قال الطيبي في "شرح المشكاة" (5/1642): " هذا إعلام بأن من قرأ القرآن، ولم يعمل به، ولم يحرم حرامه، ولا يحلل حلاله، ولا يعتقد عظمته: لم يكن القرآن شفيعاً له يوم القيامة" انتهى.
قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ اقْرَأْ، وَارْقَ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا) أخرجه أحمد في المسند (6799)، وحسنه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2240)، وصاحب القرآن هنا الذي سيقرأ يوم القيامة، ليس من قرأ القرآن فحسب، بل هو خاص بمن حفظه مع العمل.
قال ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الحديثية" (ص113) :" الْخَبَر الْمَذْكُور خاصّ بِمن يحفظه عَن ظهر قلب لَا بِمن يقْرَأ فِي الْمُصحف؛ لِأَن مُجَرّد الْقِرَاءَة فِي الْخط لَا يخْتَلف النَّاس فِيهَا ، وَلَا يتفاوتون قلَّة وَكَثْرَة ، وَإِنَّمَا الَّذِي يتفاوتون فِيهِ كَذَلِك هُوَ الْحِفْظ عَن ظهر قلب ، فَلهَذَا تفاوتت مَنَازِلهمْ فِي الْجنَّة بِحَسب تفَاوت حفظهم" انتهى.
قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ .. ). أخرجه مسلم (673)، وقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه :" أَقْرَؤُنَا أُبَيٌّ" البخاري (4481)، فمعناه ليس مجرد التلاوة، بل أمر زائد عليه، قال القاري في "المرقاة" (3/862) :" وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَكْثَرُهُمْ قِرَاءَةً. بِمَعْنَى أَحْفَظُهُمْ لِلْقُرْآنِ، كَمَا وَرَدَ: أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا" انتهى.
وكذلك مصطلح القُرَّاء، لم يكن المقصود به مطلق القراءة، بل شيء زائد عنه، وهو الحفظ وكثرة القراءة، وقد ورد في حديث أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ:" قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهْرًا حِينَ قُتِلَ القُرَّاءُ ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَزِنَ حُزْنًا قَطُّ أَشَدَّ مِنْهُ) البخاري (1300) ومسلم (677)، قال القاري في "مرقاة المفاتيح" (3/959):" (يُقَالُ لَهُمْ: الْقُرَّاءُ) : لِكَثْرَةِ قِرَاءَتِهِمْ وَحِفْظِهِمْ لِلْقُرْآنِ" انتهى.
وورد كذلك في حديث عبد الله بن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وفيه :" وَكَانَ القُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجْلِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ، كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا" البخاري (7286)، قال ابن حجر في "الفتح" (13/258) :" أَيِ الْعُلَمَاءُ الْعُبَّادُ" انتهى.
وقد بوب الإمام البخاري فقال :"بَابُ الْقُرَّاءِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". قال ابن حجر في "الفتح" (9/47) :" أَيِ الَّذِينَ اشْتُهِرُوا بِحِفْظِ الْقُرْآنِ، وَالتَّصَدِّي لِتَعْلِيمِهِ، وَهَذَا اللَّفْظُ كَانَ فِي عُرْفِ السَّلَفِ أَيْضًا لِمَنْ تَفَقَّهَ فِي الْقُرْآنِ " انتهى.
ثالثا:
وأما الموضع الثاني من السؤال: وهو هل يشترط الغدو لحصول الأجر، أم يحصل الأجر بمجرد الذهاب، بغض النظر عن توقيت ذلك؟ فيقال في جواب ذلك:
إن لفظ الحديث :(أفلا يغدو) والغُدُوُّ هو الذهاب أول النهار في أصل استعمال اللغة. إلا أن العرب توسعوا في استعماله، فصار يستعمل في مطلق الذهاب ، وهذا هو المراد هنا إن شاء الله ، وهذا وارد في الحديث النبوي في غير ما حديث ، وقد ذكر ذلك أحمد بن علي الفيومي في "المصباح المنير في غريب الشرح الكبير" (2/443) فقال :" غَدَا غُدُوًّا، مِنْ بَابِ قَعَدَ: ذَهَبَ غُدْوَةً، وَهِيَ مَا بَيْنَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ. وَجَمْعُ الْغُدْوَةِ: غُدًى؛ مِثْلُ مُدْيَةٍ وَمُدًى. هَذَا أَصْلُهُ، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى اُسْتُعْمِلَ فِي الذَّهَابِ وَالِانْطِلَاقِ، أَيَّ وَقْتٍ كَانَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ أَيْ وَانْطَلِقْ ". انتهى.
ولعله عبر بالغدو لكون الناس إنما يخرجون في البكور أول النهار لتحصيل معاشهم والسعي على أرزاقهم، ولذا ذكر العقيق أو بُطحان لأنهما أقرب المواضع التي يقام فيها أسواق الإبل إلي المدينة، كما ذكر الطيبي في "شرح المشكاة" (5/1634)، وليس المراد تعيين الثواب بالغدو فقط ، فإن علة الثواب هي مطلق الذهاب إلى المسجد بقصد قراءة أو تعلم آيات القرآن الكريم.
رابعا:
وأما الموضع الثالث من السؤال: وهو عن معنى قوله صلى الله عليه وسلم : (ولا قطع رحم).
فالجواب: أن معناه: أنَّه تحصَّل على هذه النُوق من غير إثم، ولا أخذه من أحد من أرحامه من ملكه بلا إذنه أو دون رضاه، أو بأذى لأحد أرحامه فيترتب على ذلك قطيعة رحم.
قال العيني في "شرح سنن أبي داود" (5/369) :" قوله: " ولا قطع رحمٍ ": عطفٌ عليه. والمعنى: فيأخذُ بغير قطع رحم، يعني: حالَ كونه غيرَ ملتبس بقطع رحم في أخذه بأن لم يكن لأحد من ذوي أرحامه حتى إذا اتخذه من مِلك أحد منهم بغير رضاه يؤدي ذلك إلى الضراب، المُنتج للانقطاع، الذي هو قطع الرحم" انتهى.
والله أعلم.
تعليق