الحمد لله.
أولاً :
روى البخاري في "الأدب المفرد" (814) ، وأحمد في "المسند" (19032) ، وأبو داود في "سننه" (4950) ، وأبو يعلى في "مسنده" (7169) ، من طريق هشام بن سعيد ، وأخرجه الدولابي في "الكنى والأسماء" (1/177) ، وابن قتيبة في "غريب الحديث" (1/286) ، من طريق يحيى بن صالح ، كلاهما ( هشام بن سعيد – يحيى بن صالح ) عن محمد بن المهاجر عن عقيل بن شبيب عن أبي وهب الْجُشَمِيِّ -وكانت له صحبة- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-:
( تَسَمَّوْا بأسَماءِ الأنبياء ، وأحَبُّ الأسماءِ إلى الله: عَبدُ الله وعبدُ الرحمن ، وأصدَقُها: حارِثٌ وهَمَّامٌ ، وأقْبَحُها: حَرْبٌ ومُرَّة ) .
وهذا الطريق فيه علتان :
الأولى : الخلاف في راوي الحديث ، وهو " أبو وهب " هل هو " أبو وهب الْجُشَمِيِّ " الذي ذكر الراوي عنه أنه كانت له صحبة ، أم هو " أبو وهب الكُلاعي " شامي من طبقة تابعي التابعين؟ فالذي رجحه أبو حاتم كما في المراسيل (ص118) ، وكما في العلل (2451) أنه " أبو وهب الكلاعي " من طبقة تابعي التابعين ، والذي رجحه ابن القطان أنه " أبو وهب الْجُشَمِيِّ " وهو غير أبو وهب الكلاعي الدمشقي التابعي .
فعلى القول الأول يكون الحديث مرسلا ، وعلى القول الثاني سيبقى النظر في صحة ثبوت الصحبة لأبي وهب الْجُشَمِيِّ ، حيث اعتبرها صحيحة جماعة من أهل العلم ، منهم : أبو نعيم كما في "معرفة الصحابة" (6/3042) ، وابن عبد البر كما في "الاستيعاب" (3218) ، وابن عساكر كما في "تاريخ دمشق" (28/43) ، وابن الأثير كما في "أسد الغابة" (6344) ، وابن كثير كما في "التكميل في الجرح والتعديل" (2525) .
ولم يعتبرها صحيحة ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (4/380) فقال :" :" ولا تعلم لأبي وهب الصحبة إلا بزعم عقيل بن شبيب هذا ، ولا يعرف روى عنه غيره . وعقيل المذكور ، يحتاج في تعديل نفسه إلى كفيل ، فهو غير معروف الحال ، ولا مذكور بأكثر من رواية محمد بن مهاجر عنه . وكل من رأيته ذكر أبا وهب في الصحابة ، فإنما ذكره بهذا الذي قال فيه عقيل هذا ". انتهى
الثانية : جهالة عقيل بن شبيب ، حيث ذكره ابن حبان في الثقات (4801) ، وقال الذهبي في "الكاشف" (3855) :" وثق" ، وقال ابن حجر في "التقريب" (4660) :" مجهول ". انتهى
فيتلخص من ذلك أن هذا الطريق فيه علة توهنه وهي جهالة حال عقيل بن شبيب .
إلا أن الحديث قد جاء من طريق آخر مرسل جيد يقويه ، وهو ما أخرجه ابن وهب في "الجامع" (53) عن ابن لهيعة عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ الْيَحْصِبِيِّ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" خَيْرُ الْأَسْمَاءِ عَبْدُ اللَّهِ ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ، وَنَحْوَ هَذَا ، وَأَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ الْحَارِثُ ، وَهَمَّامٌ ، حَارِثٌ لِدُنْيَاهُ وَلِدِينِهِ ، وَهَمَّامٌ بِهِمَا ، وَشَرٌّ الْأَسْمَاءِ حَرْبٌ ، وَمُرَّةُ ".
وهذا الطريق رجاله ثقات غير أنه مرسل ؛ حيث إن عبد الله بن عامر اليحصبي من التابعين ، ولا يضر الحديث أن فيه ابن لهيعة ، حيث إن الراوي عنه ابن وهب وهو من العبادلة ، وروايتهم عنه مقبولة .
وخلاصة الحكم أن الحديث حسن بمجموع الطريقين ، دون قوله :" تسموا بأسماء الأنبياء " ، وقد صححه ابن القيم في "زاد المعاد" (2/305) ، وكان الشيخ الألباني قد ضعف طريق أبي وهب الجشمي وحده كما في "إرواء الغليل" (1178) ، ثم حسن الحديث بشاهده المرسل هذا في "السلسلة الصحيحة" (1040)
ثانيا :
إذا ثبت الحديث فقد أخذ منه بعض العلماء أن التسمي بـ "حارث" و "همام" تسمية حسنة ، وذلك لما فيها من الصدق ، ومعنى الصدق فيهما مطابقة الاسم لواقع الإنسان ، فأي إنسان يحرث ، أي يكتسب سواء حرثَ في أمر الدنيا أو في أمر الآخرة ، وكذلك كل إنسان يَهمُّ ، من الهم ، أي العزم والإرادة .
قال الخطابي في "معالم السنن" (4/126) :" إنما صار الحارث من أصدق الأسماء : من أجل مطابقة الاسم معناه الذي اشتق منه ؛ وذلك أن معنى الحارث الكاسب ، يقال: حرث الرجل إذا كسب واحتراث المال كسبه .... وقال سبحانه : (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها) [الشورى: 20] .
وأما همام : فهو من هممت بالشيء ، إذا أردته ، وليس من أحد إلاّ وهو يهم بشيء ، وهو معنى الصدق الذي وصف به هذان الاسمان ". انتهى .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (7/43) :" وَقَوْلُهُ أَصْدَقُ الْأَسْمَاءِ : حَارِثٌ وَهَمَّامٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ هَمَّامٌ حَارِثٌ وَالْحَارِثُ الْكَاسِبُ الْعَامِلُ . وَالْهَمَّامُ الْكَثِيرُ الْهَمِّ - وَهُوَ مَبْدَأُ الْإِرَادَةِ ".انتهى
وقال ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (9/347) :" فأولى الأسماء أن يتسمى بها أقربها إلى الصدق ". انتهى .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله كما في مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (25/277) :" كل اسم مضاف إلى الله فهو خير مما لم يضف إلى الله عز وجل وأشرف ، وأفضله ما أضيف إلى الله أو إلى الرحمن ، بالحديث الذي ذكرته آنفاً ، ثم ما كان من الأسماء أقرب إلى الصدق ، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أصدق الأسماء حارث وهمام) ، يعني ما يولد الإنسان إلا وهو حارث وهمام ، فإذا سمي بحارث أو همام صار مطابقاً تماماً للواقع ". انتهى
وأما التخوف من كون هذا الاسم غير مناسب في هذا الزمان ، فالأمر يعود إلى اختلاف البيئات، فربما كان الاسم في بعض الأماكن غير مستنكر ، وبالتالي لا يؤثر على الولد سلبا ، وربما كان مستنكرا عرفا ، أو داعية للسخرية ، وحينئذ ربما سبب إشكالات نفسية لدى الطفل ، فلابد من مراعاة ذلك عند اختيار أسماء الأولاد .
ومثال ذلك التسمية باسم " إسرائيل " ، فمعلوم أن إسرائيل هو اسم نبي الله يعقوب ، والتسمي بأسماء الأنبياء حسن مستحب ، بل قال ابن حجر في "الفتح" (10/579) :" وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ أَسْمَاءُ الْأَنْبِيَاءِ ". انتهى .
لكن : لو جاء مسلم اليوم وسمى ولده باسم إسرائيل - مع وجود هذا الكيان المحتل الغاشم دولة إسرائيل – لوجد من الناس السخرية والسب وغير ذلك .
فالذي ينبغي في هذا الباب مراعاة الزمان والمكان ، وأعراف الناس وما يعتادونه ، والنظر في ملاءمة الاسم للبيئة التي ينشأ فيها الطفل ، وقبول الاسم فيها ، وعدم استهجانه .
ثالثا :
وأما السؤال عن تلك المقولة أن كل إنسان له من اسمه نصيب ، فهي مقولة مشهورة ذكرها كثير من العلماء ، كابن الحاج وابن القيم وغيرهما ، وهي ليست قاعدة مطردة ، كما لا يخفى ، وإنما هذا مما قد يقع ، ويراه الناس ؛ وقد يقع أيضا : أن يسمى الشخص باسم ويكون حاله مخالفا لهذا الاسم .
وعلى كلٍّ ؛ فإنه ينبغي إحسان التسمية كما أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، بل كان صلى الله عليه وسلم يغير الأسماء السيئة المعنى إلى أسماء حسنة المعنى .
وينظر السؤال رقم (14622) .
وأما الخوف من أن ينال الهمُ من سُمي باسم "همام" فهذا غير صحيح ؛ لأن اسم " همام " من "الهم" الذي هو العزم والإرادة ، وليس من "الهم" الذي بمعنى الحزن .
ينظر : لسان العرب (12/619) ، القاموس المحيط (ص1512) .
وختاما : نسأل الله أن يصلح المسلمين ، وأن يجعل همهم وحرثهم فيما يرضيه ، آمين .
والله أعلم
تعليق