الحمد لله.
نُسِب إلى الأئمة ابن معين والبخاري ومسلم رحمهم الله تعالى عدم الاعتداد بالضعيف مطلقا في فضائل الأعمال.
قال الشيخ محمد جمال الدين القاسمي رحمه الله تعالى:
" ليعلم أن المذاهب في الضعيف ثلاثة:
الأول لا يعمل به مطلقا؛ لا في الأحكام، ولا في الفضائل. حكاه ابن سيد الناس في عيون الأثر، عن يحيى بن معين، ونسبه في فتح المغيث لأبي بكر بن العربي، والظاهر أن مذهب البخاري ومسلم ذلك أيضا يدل عليه شرط البخاري في صحيحه، وتشنيع الإمام مسلم على رواة الضعيف كما أسلفناه وعدم إخراجهما في صحيحهما شيئا منه " انتهى. "قواعد التحديث" (ص113).
فأما ابن معين فقد ذكر مذهبه هذا ابنُ سيد الناس.
قال ابن سيّد الناس اليعمري رحمه الله تعالى:
" وممن حُكي عنه التسوية في ذلك بين الأحكام وغيرها يحيى بن معين، وفي ذلك بحث ليس هذا موضعه…
على أن المعروف عن يحيى في هذه المسألة التسوية بين المرويات من أحكام وغيرها، والقبول مطلقا، أو عدمه؛ من غير تفصيل " انتهى. "عيون الأثر" (1/ 65 — 66).
لكن لم يبيّن مستند هذا العزو، إلا أن يكون مستنده ما نُقِل عنه من أنَ الورع يقتضي أنَ من شك في حديث تركه.
قال ابن عدي رحمه الله تعالى:
" حدّثني محمد بن ثابت، حدثنا موسى بن حمدون، قال: سمعت أحمد بن عقبة يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: من لم يكن سمحا في الحديث كان كذّابا، فقيل له: وكيف يكون سمحا؟ قال: إذا شك في الحديث تركه " انتهى. "الكامل" (1 / 306).
والذي يُفهم من كلام ابن معين في بعض الرواة: أنه يفرق بين الفضائل والأحكام.
كما في قول ابن عدي رحمه الله تعالى:
" حدثنا علي بن أحمد بن سليمان، حدثنا أحمد بن سعد بن أبي مريم، قال: سمعت يحيى بن معين يقول: إدريس بن سنان: يُكتب من حديثه الرقاق " انتهى. "الكامل" (2 / 235).
وكما في قول ابن أبي حاتم رحمه الله تعالى:
" حدثنا محمد بن هارون الفلاس المخرمي، قال: سألت يحيى بن معين، عن محمد بن إسحاق؟
فقال: ما أحب أن أحتج به في الفرائض " انتهى. "الجرح والتعديل" (7 / 194).
وهذا الذي يُفهم من تصرف ابن رجب حيث ذكر بعض أقوال ابن معين ضمن أقوال من رخص في روايات الضعفاء في الرقاق، حيث قال رحمه الله تعالى:
" فقد رخص كثير من الأئمة في رواية الأحاديث الرقاق ونحوها عن الضعفاء، منهم: ابن مهدي، وأحمد بن حنبل ... وقال ابن معين في موسى بن عبيدة: يكتب من حديثه الرقاق ...
وقال ابن معين في زياد البكائي: لا بأس به في المغازي، وأما في غيرها فلا " انتهى. "شرح علل الترمذي" (1 / 371 – 372).
وأما الإمام البخاري فلا نعلم له نصًّا في هذه المسألة.
وقد سبق قول الشيخ محمد جمال الدين القاسمي: " والظاهر أن مذهب البخاري ومسلم ذلك أيضا يدل عليه شرط البخاري في صحيحه " انتهى.
وقال الشيخ عبد الكريم الخضير:
" الظاهر من صنيع البخاري في صحيحه، وشدة شرطه في الرواة، وعدم إخراجه شيئًا من الأحاديث الضعيفة أن مذهبه عدم العمل بالحديث الضعيف، وهو ما استظهره الشيخ جمال الدين القاسمي " انتهى. "الحديث الضعيف وحكم الاحتجاج به" (ص262).
ولعل مراد من قال بذلك أن الإمام البخاري أدرج في كتابه أبوابا في الرقاق والفضائل، وعاملها معاملة أبواب الأحكام والعقائد.
لكن لا يظهر في هذا الاستدلال حجة على نسبة هذا المذهب إلى الإمام البخاري، رحمه الله؛ فإنه قد قد صنّف غير "الجامع الصحيح" كتبا "مصنفة"؛ أي: مرتبة على الأبواب، سواء كان ذلك تصنيفا فقهيا، مثل "القراءة خلف الإمام"، أو عقديا، مثل "خلق أفعال العباد"، أو في الأدب والرقاق، وهو كتابه: "الأدب المفرد"؛ وفي هذه المصنفات "الموضوعية" – جميعها – لم يلتزم بشرط الصحيح، بل روى فيها بما لا يلائم شرطه في الصحيح، وتساهل في أسانيدها، ما لم يتساهل فيه، بل روى في بعض الأبواب، ما أشار هو إلى ضعفه، أو "النظر" في إسناده، بحسب ما يذكره، رحمه الله.
ومن أمثلة ذلك:
قوله (918): حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ يَعْنِي أَبَا قُدَامَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَرَ الزَّهْرَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا فِي دَارٍ كَثُرَ فِيهَا عَدَدُنَا، وَكَثُرَ فِيهَا أَمْوَالُنَا، فَتَحَوَّلْنَا إِلَى دَارٍ أُخْرَى، فَقَلَّ فِيهَا عَدَدُنَا، وَقَلَّتْ فِيهَا أَمْوَالُنَا؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رُدَّهَا، أَوْ دَعُوهَا، وَهِيَ ذَمِيمَةٌ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: " فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ". انتهى.
وينظر: رقم (1192)، ورقم: (1279).
بل قد رأى بعضهم أن تصرفه في الصحيح يوحي بأنه على مذهب من يتساهل في بعض أخبار الفضائل والرقاق.
قال ابن حجر رحمه الله تعالى:
" محمد بن عبد الرحمن الطفاوي، من شيوخ أحمد بن حنبل، وثقه ابن المديني، وقال أبو حاتم: صدوق إلا أنه يهم أحيانا، وقال ابن معين: لا بأس به، وقال أبو زرعة: منكر الحديث، وأورد له ابن عدي عدة أحاديث، وقال: إنه لا بأس به.
قلت: له في البخاري ثلاثة أحاديث...
ثالثها: في الرقاق عن علي، عنه، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عمر حديث: ( كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ … ) الحديث، فهذا الحديث قد تفرد به الطفاوي، وهو من غرائب الصحيح.
وكأن البخاري لم يشدد فيه؛ لكونه من أحاديث الترغيب والترهيب، والله أعلم.
ثم وجدت له فيه متابعا في نوادر الأصول للحكيم الترمذي من طريق مالك بن سعير، عن الأعمش، والله أعلم " انتهى. "هدي الساري" (ص 440 – 441).
وروى البخاري (6502)، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ: حَدَّثَنِي شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ؛ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" وهو من غرائب " الصحيح "، تفرد به ابن كرامة عن خالد، وليس هو في "مسند أحمد"، مع أن خالد بن مخلد القطواني تكلم فيه أحمد وغيره، وقالوا: له مناكير، وعطاء الذي في إسناده قيل: إنه ابن أبي رباح، وقيل: إنه ابن يسار، وإنه وقع في بعض نسخ " الصحيح " منسوبا كذلك.
وقد روي هذا الحديث من وجوه أخر لا تخلو كلها عن مقال " انتهى. "جامع العلوم والحكم" (ص770).
وقال الشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه الله تعالى:
" وقد أومأ البخاريُّ إلى حاله، فلم يخرجه إلا في باب التواضع من كتاب الرِّقاق " انتهى. "الأنوار الكاشفة - ضمن آثار المعلمي" (12 / 269).
وأما الإمام مسلم، فالقول بعدم التساهل في أخبار فضائل الأعمال، هو الذي يفهم من قوله رحمه الله تعالى:
" الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل، أو تحريم، أو أمر، أو نهي، أو ترغيب، أو ترهيب، فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق والأمانة، ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه، ولم يبين ما فيه لغيره، ممن جهل معرفته، كان آثما بفعله ذلك، غاشا لعوام المسلمين؛ إذ لا يؤمن على بعض من سمع تلك الأخبار أن يستعملها، أو يستعمل بعضها، ولعلها أو أكثرها أكاذيب، لا أصل لها.
مع أن الأخبار الصحاح من رواية الثقات وأهل القناعة: أكثر من أن يضطر إلى نقل من ليس بثقة ولا مقنع " انتهى. "صحيح مسلم" (1 / 22).
وهذا هو ما فهمه الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى، حيث قال:
" وظاهر ما ذكره مسلم في مقدمة كتابه: يقتضي أنه لا تروى أحاديث الترغيب والترهيب إلا عمن تروى عنه الأحكام " انتهى. "شرح علل الترمذي" (1 / 373).
وقد سبق الكلام عن حكم العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، في جواب السؤال رقم (44877).
فالحاصل:
أن كلام الإمام يحي بن معين في جملة من الرواة: يُفْهَم منه أنه يفرق بين أحاديث الأحكام وبين أحاديث الرقاق والفضائل.
والإمام البخاري لا يعرف له قول صريح في المسألة؛ إلا ما استظهره القاسمي رحمه الله تعالى من شرط البخاري في الصحيح، لكن هذا وحده لا يكفي مستندا، وظاهر صنيع الإمام البخاري في كتبه الأخرى: أنه يرى التساهل في أحاديث الأدب والرقاق.
وأما الإمام مسلم: فقد تكلم في "مقدمة الصحيح": عن عدم قبول مرويات الضعفاء؛ مطلقا.
والله أعلم.
تعليق