الحمد لله.
وردت الأحاديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنهي عن الشرب قائماً ، منها ما رواه مسلم برقم (2024) و(2025) عَنْ أَنَسٍ وأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَجَرَ ( في لفظ : نَهَى) عَنْ الشُّرْبِ قَائِمًا .
وجاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث أخرى تدل على جواز الشرب قائما .
منها ما رواه البخاري (1637) مسلم (2027) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ : سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ زَمْزَمَ فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ .
ورُوي الشرب قائما عن جمع من الصحابة كعلي وعمر وعثمان وعائشة رضي الله عنهم وغيرهم.
وأحسن الطرق في الجمع بين النصوص في هذا الباب : أن تحَمْلَ أَحَادِيثِ النَّهْيِ عَلَى كَرَاهَةِ التَّنْزِيهِ وما ورد من فعله صلى الله عليه وسلم لذلك : فكان لبيان الجواز .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" وَهَذَا أَحْسَنُ الْمَسَالِكِ وَأَسْلَمُهَا ، وَأَبْعَدُهَا مِنَ الِاعْتِرَاضِ . وَقَدْ أَشَارَ الْأَثْرَمُ إِلَى ذَلِكَ أَخِيرًا فَقَالَ : إِنْ ثَبَتَتِ الْكَرَاهَةُ حُمِلَتْ عَلَى الْإِرْشَادِ وَالتَّأْدِيبِ ، لَا عَلَى التَّحْرِيمِ .
وَبِذَلِكَ جَزَمَ الطَّبَرِيُّ ، وَأَيَّدَهُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ جَائِزًا ثُمَّ حَرَّمَهُ ، أَوْ كَانَ حَرَامًا ثُمَّ جَوَّزَهُ لَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بَيَانًا وَاضِحًا ؛ فَلَمَّا تَعَارَضَتِ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ : جَمَعْنَا بَيْنَهَا بِهَذَا .
وَقِيلَ : إِنَّ النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ الطِّبِّ مَخَافَةَ وُقُوعِ ضَرَرٍ بِهِ ، فَإِنَّ الشُّرْبَ قَاعِدًا أَمْكَنُ وَأَبْعَدُ مِنَ الشَّرَقِ وَحُصُولِ الْوَجَعِ فِي الْكَبِدِ أَوِ الْحَلْقِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ لَا يَأْمَنُ مِنْهُ مَنْ شَرِبَ قَائِمًا " انتهى من "الفتح" (10/84) .
وسبق بيان ذلك في جواب السؤال (21147) .
ثانيا :
لا خلاف بين أهل العلم في أنه لا يحرم الأكل قائما ، وإنما اختلفوا في ذلك : هل هو مكروه ، أو خلاف الأولى ؟
فقال بعض أهل العلم : يكره الأكل قائما لغير حاجة ؛ قياسا على الشرب .
ويؤيده تتمة حديث أنس في النهي عن الشرب قائما " قَالَ قَتَادَةُ لأنس : فَقُلْنَا فَالْأَكْلُ، فَقَالَ: "ذَاكَ أَشَرُّ أَوْ أَخْبَثُ " .
قال ابن حجر " قيل وَإِنَّمَا جُعِلَ الْأَكْلُ أَشَرَّ لِطُولِ زَمَنِهِ بِالنِّسْبَةِ لِزَمَنِ الشُّرْبِ " انتهى من "فتح الباري" (10/82) .
واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية ، قال رحمه الله :
" ويكره الأكل والشرب قائما لغير حاجة " انتهى من "الفتاوى الكبرى"(5/477) .
وقال به الشيخ ابن باز ، وابن عثيمين رحمهما الله . ينظر "فتاوى ابن باز" (25/276) ، و"شرح رياض الصالحين لابن عثيمين".
والقول الثاني : يباح الأكل قائما ، ولا يكره ؛ وهو ظاهر مذهب الحنابلة ، وقال به ابن حزم الظاهري .
لعدم ورود دليل على منع الأكل ، والكراهة إنما وردت في الشرب .
وأما القياس فقالوا : إنه قياس مع الفارق بين الأكل والشرب ، واحتمال الضرر فيه غير ظاهر .
قال المرداوي :
" قال صاحب الفروع : وظاهر كلامهم : لا يكره أكله قائما . ويتوجه أنه كالشرب . وقاله الشيخ تقي الدين رحمه الله .
قلت : إن قلنا : إن الكراهة في الشرب قائما لما يحصل له من الضرر ، ولم يحصل مثل ذلك في الأكل : امتنع الإلحاق " انتهى من "الإنصاف" (8/330) .
وأما ما ورد عن أنس (ذاك أشر أو أخبث) فموقوف على أنس .
قال ابن حزم : "ولم يأت في الأكل نهي؛ إلا عن أنس من قوله" انتهى من "المحلى" (6/230).
وقال النووي رحمه الله : " مسألة: هل يكره الأكل والشرب قائمًا، وما الجواب عن الأحاديث في ذلك؟
الجواب: يكره الشرب قائمًا من غير حاجة، ولا يحرم.
وأما الأكل قائمًا فإن كان لحاجة : فجائز .
وإِن كان لغير حاجة : فهو خلاف الأفضل. ولا يقال: إِنه مكروه .
وثبت في صحيح البخاري من رواية ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنهم كانوا يفعلونه، وهذا مقدم على ما في صحيح مسلم عن أنس: أنه كرهه.
وأما الشرب قائمًا ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عنه، وفي صحيح البخاري وغيره، أحاديثُ صحيحةٌ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله. فأحاديث النهي تدل لكراهة التنزيه، وأحاديث فعله تدل لعدم التحريم . " انتهى، من "فتاوى النووي" (105) .
تنبيه : قول النووي رحمه الله في حديث ابن عمر " وثبت في البخاري .. " : كذا ، ولم نقف عليه فيه ، ولم نر من عزاه للبخاري ، وإنما هو في الترمذي وغيره ، وفيه كلام وبحث .
والخلاصة : أن مسألة الأكل قائما ، محل اجتهاد بين أهل العلم ، والأفضل للإنسان أن لا يأكل ولا يشرب إلا وهو قاعد ، فإن احتاج إلى الشرب أو الأكل قائما ، فإن الحاجة ترفع الكراهة ، وإن لم يكن بحاجة فليأكل وليشرب وهو قاعد ، وهو أهنأ وأمرأ وأصحّ للبدن .
قال الشيخ ابن عثيمين :
" أما الشرب : وهو قائم فإنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذلك ، وسئل أنس بن مالك عن الأكل ، قال: ذاك أشر وأخبث يعني .. : أنه إذا نهى عن الشرب قائما فالأكل قائما من باب أولى .
لكن في حديث ابن عمر الذي أخرجه الترمذي وصححه ، قال: كنا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم نأكل ونحن نمشي ، ونشرب ونحن قيام .
فهذا يدل على أن النهي ليس للتحريم ، ولكنه لترك الأولى ، بمعنى أن الأحسن والأكمل أن يشرب الإنسان وهو قاعد ، وأن يأكل وهو قاعد " انتهى من "شرح رياض الصالحين" (ص862) بترقيم الشاملة .
والله أعلم .
تعليق