الحمد لله.
هذا الكلام المذكور منكر عظيم واستهزاء بكلام الله تعالى، الذي هو أعظم الكلام وأشرفه، والمستهزئ به كافر متوعَّد بالوعيد الشديد، كما قال تعالى: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) التوبة/64، 65
ولا يقع في هذا إلا السفهاء المجترئون على حدود الله، يزعمون أنهم يمزحون ويتسلون، كحال الذين نزلت فيهم الآية الكريمة.
فقد روى الإمام الطبري في تفسيره (14/ 333) عن سعد، عن زيد بن أسلم: أن رجلاً مِن المنافقين قال لعوف بن مالك في غزوة تَبوك: ما لقُرَّائنا هؤلاء؛ أرغبنا بطونًا وأكذبنا ألسنةً، وأجبننا عند اللقاء؟! فقال له عوف: كذبتَ، ولكنك منافقٌ، لأُخْبِرَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب عوفٌ إلى رسول الله ليُخبره، فوجد القرآن قد سبَقه، قال زيد: قال عبدالله بن عمر: فنظرتُ إليه مُتعلقًا بحَقَب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبُهُ الحجارة، يقول: ( إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ) [التوبة: 65]، فيقول له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ( أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ) [التوبة: 65]؟ ما يَزيدُه.
قال أبو بكر ابن العربي رحمه الله في تفسيره (2/ 543): " لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جدا أو هزلا، وهو كيفما كان : كفر؛ فإن الهزل بالكفر : كفر، لا خُلْف فيه بين الأمة، فإن التحقيق أخو الحق والعلم، والهزل أخو الباطل والجهل" انتهى.
وهذه السور العظيمة فيها الأحكام والتشريعات والمواعظ، والمؤمن يحبها لأنها كلام الله، لا لما اشتملت عليه من ذكر المائدة أو ذكر النساء، فضلا عن جعل هذا متعلقا بالصائم الممنوع من شهوتي البطن والفرج.
ثم في هذه النكتة القبيحة تحريف لمعنى كلام الله، وحمله على الشيء المبغوض المحرم، فالدخان آية وعلامة من علامات الساعة، وليس الدخان المحرم الذي يشربه هذا وأمثاله ، ويتمناه هذا المستهزئ الفاجر.
قال تعالى: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) الدخان/10- 13
والواجب على من أرسلت له هذه الرسالة أن ينكرها، وأن ينصح مرسلها، وألا يعيد نشرها؛ لما فيها من الكفر بالله تعالى والاستهزاء بكلامه.
والواجب الحذر من حصائد الألسنة، فإن الكلمة قد تهوي بصاحبها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب.
روى البخاري (6478) ومسلم (2988) عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ).
وروى البخاري (6477) ومسلم (2988) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ، مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا، يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ المَشْرِقِ)
وعند الترمذي (2319) وابن ماجه (3969) عن بِلَال بْن الحَارِثِ المُزَنِيَّ، صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ فَيَكْتُبُ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ) وصححه الألباني في صحيح الترمذي.
نسأل الله السلامة والعافية.
وليُعلم : أن المزح بالكفر : كفر ، باتفاق العلماء ، كما تقدم في كلام ابن العربي، فلا يشترط قصد الاستهزاء.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " هنا ثلاث مراتب: المرتبة الأولى: أن يقصد الكلام والسب، وهذا فعل الجاد، كما يصنع أعداء الإسلام بسب الإسلام.
الثاني: أن يقصد الكلام دون السب، بمعنى يقصد ما يدل على السب ، لكنه مازحٌ غير جاد، فهذا حكمه كالأول: يكون كافراً؛ لأنه استهزاء وسخرية.
المرتبة الثالثة: أن لا يقصد الكلام ولا السب، وإنما يسبق لسانه فيتكلم بما يدل على السب دون قصدٍ إطلاقاً، لا قصد الكلام ولا قصد السب، فهذا هو الذي لا يؤاخذ به، وعليه يتنزل قوله تعالى: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) ، فإنه هو قول الرجل في عُرْض حديثه: لا والله ، وبلى والله، يعني ما قصد، فهذا لا يعتبر له حكم اليمين المنعقدة، فكل شيء يجري على لسان الإنسان بدون قصد : فإنه لا يعتبر له حكم" انتهى من فتاوى نور على الدرب.
والله أعلم.
تعليق