الحمد لله.
شاع بين الناس ما ذكره بعض أهل التاريخ ، بشأن ما حصل بين علي ومعاوية رضي الله عنهما من الخلاف ثم القتال بصفين ، وأنه لما استحر القتل في الفريقين تراوضوا بعد مكاتبات ومراجعات ، على التحكيم ، وهو أن يحكّم كل واحد من الأميرين - علي ومعاوية - رجلا من جهته، ثم يتفق الحكمان على ما فيه المصلحة للمسلمين.
فوكل علي أبا موسى الأشعري ، ووكل معاوية عمرو بن العاص ، فاجتمعا ، فخطب أبو موسى، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :
أيها الناس إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أمرا أصلح لها ولا ألم لشعثها من رأي قد اتفقت أنا وعمرو عليه، وهو أنا نخلع عليا ومعاوية ونترك الأمر شورى، وتستقبل الأمة هذا الأمر فيولوا عليهم من أحبوه واختاروه، وإني قد خلعت عليا ومعاوية.
ثم تنحى ، وجاء عمرو فقام مقامه فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن هذا قال ما قد سمعتم، وإنه قد خلع صاحبه، وإني قد خلعته أيضا كما خلعه، وأثبت صاحبي معاوية، فإنه وليُّ عثمان بن عفان، والطالب بدمه، وهو أحق الناس بمقامه.
انظر: "البداية والنهاية" (10/ 554 -575 )
وهذا لا يصح سند به ، ولا يرويه إلا من لا يوثق بروايته من الإخباريين التالفين ، أمثال أبي مخنف لوط بن يحيى ، قال الذهبي في "الميزان" (3/ 419):
" أخباري تالف، لا يوثق به، تركه أبو حاتم وغيره. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال ابن معين: ليس بثقة. وقال - مرة: ليس بشئ " انتهى .
والصحيح : أن الحكمين تراضيا على أن يعهدا بأمر الخلافة إلى الموجودين من أعيان الصحابة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم، فيجعلوا على الناس من يرونه أهلا للخلافة ، حسما للخلاف ، وحقنا للدماء .
قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله :
" تحكم الناس في التحكيم فقالوا فيه ما لا يرضاه الله، وإذا لحظتموه بعين المروءة - دون الديانة - رأيتم أنها سخافة حمل على سطرها في الكتب في الأكثر عدم الدين، وفي الأقل جهل متين.
والذي يصح من ذلك: ما روى الأئمة كخليفة بن خياط والدارقطني : أنه لما خرج الطائفة العراقية مائة ألف ، والشامية في سبعين أو تسعين ألفا ، ونزلوا على الفرات بصفين، اقتتلوا في أول يوم - وهو الثلاثاء - على الماء ، فغلب أهل العراق عليه.
ثم التقوا يوم الأربعاء لسبع خلون من صفر سنة سبع وثلاثين ويوم الخميس ويوم الجمعة وليلة السبت ، ورفعت المصاحف من أهل الشام، ودعوا إلى الصلح .
وتفرقوا على أن تجعل كل طائفة أمرها إلى رجل حتى يكون الرجلان يحكمان بين الدعويين بالحق، فكان من جهة علي أبو موسى ، ومن جهة معاوية عمرو بن العاص .
وكان أبو موسى رجلًا تقيًّا فقيهًا عالمًا ، وزعمت الطائفة التاريخية الركيكة أنه كان أبله ضعيف الرأي مخدوعًا في القول، وأن ابن العاص كان ذا دهاءٍ وأرب ، حتى ضربت الأمثال بدهائه ، تأكيدًا لما أرادت من الفساد، اتبع في ذلك بعض الجهال بعضًا ، وصنفوا فيه حكايات ، وقالوا: إنهما لما اجتمع بأذرح من دومة الجندل وتفاوضا، اتفقا على أن يخلعا الرجلين ، فقال عمرو لأبي موسى: اسبق بالقول. فتقدم فقال: إني نظرت فخلعت عليًّا عن الأمر، وينظر المسلمون لأنفسهم، كما خلعت سيفي هذا من عنقي - أو من عاتقي - وأخرجه من عنقه ، فوضعه في الأرض. وقام عمرو فوضع سيفه في الأرض وقال: إني نظرت فأثبت معاوية في الأمر كما أثبت سيفي هذا في عاتقي. وتقلده. فأنكر أبو موسى. فقال عمرو: كذلك اتفقنا. وتفرق الجمع على ذلك من الاختلاف.
قال القاضي أبو بكر: هذا كله كذب صراح ، ما جرى منه حرف قط. وإنما هو شيء أخبر عنه المبتدعة، ووضعته التاريخية للملوك، فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع ".
ثم ذكر ما رواه الدارقطني – كما في "العواصم من القواصم" (ص: 178)- وابن عساكر في "تاريخه" (46/175) من طريق عبد الله – ويقال عبيد الله – بن مضارب عن حضين بن المنذر قال : لما عزل عمرو معاوية جاء -أي حضين بن المنذر- فضرب فسطاطه قريبًا من فسطاط معاوية، فبلغ نبأه معاوية، فأرسل إليه فقال: إنه بلغني عن هذا -أي عن عمرو- كذا وكذا ، فاذهب فانظر ما هذا الذي بلغني عنه .
فأتيته ، فقلت: أخبرني عن الأمر الذي وليت أنت وأبو موسى ، كيف صنعتما فيه؟
قال: قد قال الناس في ذلك ما قالوا، والله ما كان الأمر على ما قالوا ، ولكن قلت لأبي موسى: ما ترى في هذا الأمر؟ قال أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ.
قلت: فأين تجعلني أنا ومعاوية؟ فقال: إن يستعن بكما ففيكما معونة ".
ورواته ثقات خلا ابن مضارب ، قال الذهبي في "الميزان" (2/ 506):
" عداده في صغار التابعين، لا يعرف " وذكره ابن حبان في الثقات .
ولعل هذا أمثل ما روي في الباب .
ثم قال ابن العربي رحمه الله :
" فهذا كان بدء الحديث ومنتهاه. فأعرضوا عن الغاوين، وازجروا العاوين ، وعرجوا عن سبيل الناكثين، إلى سنن المهتدين. وأمسكوا الألسنة عن السابقين إلى الدين.
وإياكم أن تكونوا يوم القيامة من الهالكين بخصومة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد هلك مَن كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خصمه، ودعوا ما مضى فقد قضى الله ما قضى. وخذوا لأنفسكم الجد فيما يلزمكم ، اعتقادًا وعملًا، ولا تسترسلوا بألسنتكم فيما لا يعينكم مع كل ناعق اتخذ الدين هملًا، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملًا " .
انتهى من"العواصم من القواصم" (ص: 172-180)
وقال الشيخ محب الدين الخطيب رحمه الله في تعليقه على "العواصم من القواصم" (ص: 174):
" من الحقائق ما إذا أسيء التعبير عنه ، وشابته شوائب المغالطة ، يوهم غير الحقيقة ، فينشأ عن ذلك الاختلاف في الحكم عليه.
ومن ذلك حادثة التحكيم ، وقول المغالطين : إن أبا موسى وعمرًا اتفقا على خلع الرجلين، فخلعهما أبو موسى، واكتفى عمرو بخلع علي دون معاوية.
وأصل المغالطة من تجاهل المغالطين : أن معاوية لم يكن خليفة، ولا هو ادعى الخلافة يومئذ حتى يحتاج عمرو إلى خلعها عنه.
بل إن أبا موسى وعمرًا اتفقا على أن يعهدا بأمر الخلافة على المسلمين إلى الموجودين على قيد الحياة ، من أعيان الصحابة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنهم.
واتفاق الحكمين على ذلك لا يتناول معاوية ، لأنه لم يكن خليفة ، ولم يقاتل على الخلافة ، وإنما كان يطالب بإقامة الحد الشرعي على الذين اشتركوا في قتل عثمان.
فلما وقع التحكيم على إمامة المسلمين، واتفق الحكمان على ترك النظر فيها إلى كبار الصحابة وأعيانهم ، تناول التحكيم شيئًا واحدًا هو الإمامة.
أما التصرف العملي في إدارة البلاد التي كانت تحت يد كل من الرجلين المتحاربين ، فبقي كما كان: علي متصرف في البلاد التي تحت حكمه، ومعاوية متصرف في البلاد التي تحت حكمه. فالتحكيم لم يقع فيه خداع ولا مكر، ولم تتخلله بلاهة ولا غفلة.
وكان يكون محلا للمكر أو الغفلة ، لو أن عمرًا أعلن في نتيجة التحكيم أنه ولى معاوية إمارة المؤمنين وخلافة المسلمين، وهذا ما لم يعلنه عمرو، ولا ادعاه معاوية، ولم يقل به أحد في الثلاثة عشر قرنًا الماضية.
وخلافة معاوية لم تبدأ إلا بعد الصلح مع الحسن بن علي، وقد تمت بمبايعة الحسن لمعاوية، ومن ذلك اليوم فقط سمي معاوية أمير المؤمنين.
فعمرو لم يغالط أبا موسى ولم يخدعه، لأنه لم يعط معاوية شيئًا جديدًا، ولم يقرر في التحكيم غير الذي قرره أبو موسى. ولم يخرج عما اتفقا عليه معًا، فبقيت العراق والحجاز وما يتبعهما تحت يد من كانت تحت يده من قبل، وبقيت الشام وما يتبعها تحت يد من كانت تحت يده من قبل، وتعلقت الإمامة بما سيكون من اتفاق أعيان الصحابة عليها، وأي ذنب لعمرو في أي شيء مما وقع؟
إن البلاهة لم تكن من أبي موسى، ولكن ممن يريد أن يفهم الوقائع على غير ما وقعت عليه. فليفهمها كل من شاء كما يشاء. أما هي فظاهرة واضحة لكل من يراها كما هي " انتهى .
وينظر نقد أوسع لرواية التحكيم المذكورة ، في كتاب " موقف الصحابة من الفتنة " ، للدكتور محمد آمحزون (2/223-235) .
والله تعالى أعلم.
تعليق