الحمد لله.
أولا:
ورد في السنّة ما يفهم منه أن الهجر يرتفع بمجرد إلقاء السلام، كما في حديث أَبِي أَيُّوب الأَنْصَارِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَانِ: فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ رواه البخاري (6077) ، ومسلم (2560).
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى:
" وقوله: ( وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ ): يحتج به من يرى أن السلام يقطع الهجرة، ويزيل الحرج، وإن لم يكلمه. وهو قول مالك وغيره " انتهى. "اكمال المعلم" (8 / 26).وبالنظر إلى العلة من تحريم الهجر، وهو نزع التدابر والتشاحن، وإصلاح ذات البين وتحقيق الأخوة الإسلامية، كما يشير إلى هذا حديث أَنَس بْن مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( لاَتَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ). رواه البخاري (6065) ، ومسلم (2559).
فبالنظر إلى هذا؛ يشترط أن يكون السلام الذي يزول به الهجر، هو السلام الذي يدل على أن الأمور عادت إلى طبيعتها إلى ما قبل الهجر ، وزالت الشحناء والغلّ ، وحدث التصالح.
وأما السلام الذي تبقى معه العداوة والإعراض والوحشة ، فلا يكفي لإزالة الهجر.
وقد نص على هذا عدد من أهل العلم.
قال ابن عبد البر رحمه الله تعالى:
" واختلفوا في المتهاجرين : يسلم أحدهما على صاحبه، أيخرجه ذلك من الهجرة أم لا؟
فروى ابن وهب عن مالك أنه قال: إذا سلم عليه، فقد قطع الهجرة. وكأنه والله أعلم؛ أخذ هذا من قوله صلى الله عليه وسلم: ( وخيرهما الذي يبدأ بالسلام )، أو مِن قول من قال: يجزىء من الصرم [أي : الهجر] السلام.
وقال أبو بكر الأثرم: قلت لأحمد بن حنبل: إذا سلم عليه، هل يجزيه ذلك من كلامه إياه؟
فقال: ينظر في ذلك إلى ما كان عليه قبل أن يهجره، فإن كان قد علم منه مكالمته والإقبال عليه، فلا يخرجه من الهجرة إلا سلام ليس معه إعراض ولا إدبار .
وقد روي هذا المعنى عن مالك " انتهى. "التمهيد" (6 / 127 – 128).
وقال ابن رشد رحمه الله تعالى:
" وعن الرجل يهاجر الرجل ، ثم يبدو له فيسلم عليه من غير أن يكلمه في غير ذلك ، وهو مجتنب لكلامه ، هل تراه قد خرج من الشحناء؟
قال -ابن القاسم -: سمعت مالكا يقول: إن كان مؤذيا له فقد برئ من الشحناء، قال ابن القاسم: وأرى إن كان غير مؤذ له أنه : غير بريء من الشحناء ...
قال الإمام القاضي: معنى قول مالك وابن القاسم: أن المسلم يخرج من الشحناء ، إن كان المسلم عليه مؤذيا للذي ابتدأ بالسلام ، ولم يضر الذي ابتدأ بالسلام تركه لكلام المؤذي، وإن كان المسلم عليه غير مؤذ للذي ابتدأ بالسلام ، فلا يخرج الذي ابتدأ بالسلام سلامه من الشحناء ، حتى يكلمه ؛ إذ لا عذر له في ترك كلامه " انتهى. "البيان والتحصيل" (10 / 60).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" ومن فوائد الحديث: أن الهجر يزول بالسلام ، ووجهه واضح ، لأنك ستقول: السلام عليك، فتخاطبه، فيزول بذلك الهجر .
لكن ليُعلم أن الناس يختلفون، من الناس من يكفيه أن تقول: السلام عليك، وتقول: عليك السلام ويذهب، ومن الناس من يحتاج إلى زيادة سؤال عن حاله: كيف أنت، أرأيت الرجل العادي الذي يمر بك يكفي أن تقول: السلام عليك، ويقول: عليك السلام، لكن إذا كان من أصدقائك أو من أقاربك ، لا يكفي السلام عليك، وهو يقول: عليكم السلام، ولذلك لو أنك سلمت عليه ، ورد عليك ، وسكت ، لقلت إن الرجل في قلبه شيء .
فهذه أيضًا مسألة يتفطن لها ، وإلا ؛ فالأصل أن السلام يزول به الهجر " انتهى. "فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام" (6 / 294 – 295).
ثانيا:
وبناء على ماسبق؛ فإن كانت من عادة هذين الرجلين المحادثة والمصادقة عبر تطبيق الواتس اب، وهو عامل مؤثر في تواصلهما، كما هي عادة كثير من الناس في هذا الزمن، فينبغي عليه في هذه الحال أن يرسل له عبر هذا التطبيق ، أو غيره من الرسائل : ما يتحقق به زوال الهجر والشحناء. ثم لينظر في أمره ، وما يصلحه ، بعد أن يزول الهجر ؛ ولا يلزم استمرار التواصل عبر هذه التطبيقات ، إنما الذي يلزم زوال الهجر والشحناء ، كيفما كان .
وأما إن كان تواصلهما سابقا عبر هذه التطبيقات، كان يحصل فقط للشغل والحاجة الملحة، ولم يكن بينهما مؤانسة ، ولا مصادقة عبرها، فهذا يكفيه أن يسلم عليه إذا لقيه ويسامحه، وإن سلم عليه عبر هذا التطبيق ليسارع إلى إزالة الشحناء قبل أن يلقاه : فهو أحسن ، وهو من المسابقة إلى الخيرات.
ثالثا:
ورد في سؤالك عبارة "أتاه عقل الرحمن" والظاهر أن المقصود منها؛ أن الله رزقه العقل والحكمة الداعية إلى ترك التشاحن والتخاصم، وهذا المعنى لا بأس به.
لكن قد يسبق إلى أفهام العامة ممن يخاطب بمثل هذا اللفظ، أن الله الرحمن موصوف بالعقل، وهذا معنى باطل، قد سبق بيانه في الجواب رقم (204924).
وعلى المسلم أن يتجنب الألفاظ والكلمات التي تختلط فيها المعاني الصحيحة بالفاسدة، كما بيّن ذلك أهل العلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وإن كان اللفظ يفهم منه معنًى فاسد لم يطلق إلا مع بيان ما يزيل المحذور، وإن كان اللفظ يوهم بعض المستمعين معنى فاسداً لم يخاطب بذلك اللفظ؛ إذا علم أنه يوهم معنًى فاسداً، لأن المقصود بالكلام البيان والإفهام " انتهى. "الرد على البكري" (2 / 702).
والله أعلم.
تعليق