الحمد لله.
أولا :
ينبغي أن نقرر هنا أمرين ، فيما يتعلق باعتقاد المسلم فيما أنزل الله على أهل الكتب من قبلنا .
أما الأمر الأول : فهو أن الله جل جلاله أرسل رسله ، وأنزل عليهم كتبه ، وأمرنا بالإيمان بذلك كله ، الإيمان بالرسل الذين أرسلهم ، والإيمان بالكتب التي أخبرنا أنه أنزلها على هؤلاء المرسلين ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وجعل الإيمان بذلك كله : أحد أركان الإيمان الستة .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: مَا الإِيمَانُ؟ قَالَ: الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَبِلِقَائِهِ، وَرُسُلِهِ وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ.
رواه البخاري (50) ومسلم (9) من حديث أبي هريرة .
قال الشيخ عمر الأشقر رحمه الله :
" والذي أوحاه الله لرسله قد يكون نزل من السماء مكتوباً كالتوراة التي أنزلت على موسى، قال تعالى: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا) [الأعراف: 145] .
وقد يكون كتاباً ولكنه أنزل إلى الرسول بالتلاوة والمشافهة كالقرآن (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً) [الإسراء: 106] .
والمنزل من السماء قد يجمعه كتاب ، كصحف إبراهيم والكتب المنزلة على موسى وداود وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم .
وقد يكون وحياً يلقى إلى الرسول أو النبي، وليس بكتاب، وذلك كالوحي المنزل إلى إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، والموحى به إلى نبينا من غير القرآن.
ويجب الإيمان بالوحي المنزل كله : ( قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ) [البقرة: 136] .
وقال الله لرسوله: (وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) [الشورى: 15] .
وقال للمؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ) [النساء: 136] .
فما أعلمنا الله به تفصيلاً كالكتب التي ذكرها، وهي صحف إبراهيم وتوراة موسى وزبور داود وإنجيل عيسى والقرآن المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وكتكليم الله لموسى، وإيحاء الله إلى صالح وهود وشعيب، ووحي الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من غير القرآن، وقد تضمنته كتب السنة = نؤمن به تفصيلاً كما أخبر الله تعالى .
ونؤمن بأن هناك كتباً ووحياً غير ذلك لم يعلمنا الله سبحانه بها." انتهى ، من "الرسل والرسالات" (229-230) .
وينظر جواب السؤال رقم (10468) ورقم (9519) ورقم (145665).
والأمر الثاني : أنه لم يعد بين أيدي الناس ، مما يوثق بأنه خبر السماء ، ووحي الله إلى عباده ، سوى القرآن الكريم الذي تولى الله حفظه ، ومن على عباده ببقاء نوره ، كما أنزله الله ، لم يصبه تحريف ولا تغيير ولا تبديل . قال الله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) الحجر/9
وأما ما سوى ذلك من الكتب فقد أصابها من التحريف لبعض ، والكتمان لبعض ، ما يرفع الثقة بما فيها ، إلا أن يقاس إلى وحي السماء وخبره الصادق ؛ فما صدقه ، فهو الصادق ، وما كذبه ، فهو الكاذب . وما لم يصدقه ، أو يكذبه : وجب التوقف الناس فيه ؛ فإنهم لا يدرون : لعلهم يصدقون بأمر ، هو كاذب في نفسه ، لم يأت به وحي السماء ، أو لعلهم إن كذَّبوا ، أن يكذبوا بخبر نزل من السماء صدقا ، وليس بين أيدينا ما يدلنا عليه .
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ أَهْلُ الكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الإِسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ وَلا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ [البقرة: 136] . الآيَةَ ) . رواه البخاري (7542) .
وعند أبي داود (3644) وغيره : ( .. فَإِنْ كَانَ بَاطِلًا لَمْ تُصَدِّقُوهُ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لَمْ تُكَذِّبُوهُ ) .
وينظر جواب السؤال رقم (265035).
ثانيا :
أما بخصوص ما ورد في السؤال عن موقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، فيقول د. سامي عامري، وفقه الله ، وهو باحث متخصص في دراسة الأديان المقارنة :
" لا بدّ من التمييز بين موقف شيخ الإسلام من تحريف الإنجيل ، وتحريف التوراة.
مذهب شيخ الإسلام : صريح في أنّ المسيح عليه السلام قد نزل عليه إنجيلٌ من السماء، وهو الذي جاء خبره في القرآن.
كما بيّن شيخ الإسلام أن الأناجيل الأربعة : ليست هي إنجيل المسيح، وإنما كتبت بعده، وفيها شيء من خبر إنجيل المسيح .
ولذلك قال: "وأما الأناجيل التي بأيدي النصارى : فهي أربعة أناجيل إنجيل متى ويوحنا ولوقا ومرقس . وهم متفقون على أن لوقا ومرقس لم يريا المسيح ، وإنما رآه متى ويوحنا ، وأن هذه المقالات الأربعة التي يسمونها الإنجيل ، وقد يسمون كل واحد منهم إنجيلا ، إنما كتبها هؤلاء بعد أن رفع المسيح ، فلم يذكروا فيها أنها كلام الله ، ولا أن المسيح ، بلغها عن الله ، بل نقلوا فيها أشياء من كلام المسيح ، وأشياء من أفعاله ومعجزاته . وذكروا أنهم لم ينقلوا كل ما سمعوه منه ورأوه ، فكانت من جنس ما يرويه أهل الحديث والسير والمغازي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أقواله وأفعاله التي ليست قرآنا .
فالأناجيل التي بأيديهم : شبه كتب السيرة وكتب الحديث ، أو مثل هذه الكتب ، وإن كان غالبها صحيحا".
موقف شيخ الإسلام من تحريف الإنجيل : واضح أنه يميز بين إنجيل المسيح وما كتب بعده. ولذلك فطرح مفهوم التحريف هنا يحتاج إلى بيان أنه ليس تغييرا لنسخة إنجيل المسيح، وإنما جاء بعد المسيح من اقتبس من كلامه الذي نزل عليه في الإنجيل.
ولذلك فما وافق الخبر القرآني في الأناجيل فهو من الوحي، وما خالفه فليس من الوحي، وما لم يترجح أمره، فلا يُجزم بربانيته.
وأما التوراة : فعلماء الإسلام على ثلاثة مذاهب :
ذهبت قلة منهم إلى أنّ التحريف معنوي، لم يمسّ الألفاظ .
وذهبت طائفة ثانية ، على رأسها الإمام ابن حزم إلى أنّ التحريف فاحش في التوراة . وقد فصّل قوله في كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل" .
واختار فريق ثالث -يمثّله شيخ الإسلام ابن تيمية- : أنّ التحريف اللفظي قد أصاب التوراة، لكنّة تحريف ليس بالفاحش.
كما ذهب شيخ الإسلام إلى أنّ التحريف لم يصب جميع النسخ، وإنما بقيت نسخ حتّى عصر النبوة سليمة من التغيير .
قال: " ثم من هؤلاء من زعم أن كثيرا مما في التوراة أو الانجيل باطل، ليس من كلام الله . ومنهم من قال : بل ذلك قليل . وقيل لم يحرف أحد شيئا من حروف الكتب ، وانما حرفوا معانيها بالتأويل .
وهذان القولان قال كلا منهما كثير من المسلمين .
والصحيح : القول الثالث : وهو أن في الأرض نسخا صحيحة ، وبقيت إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ونسخا كثيرة محرفة".
وقد انتهى البحث العلمي اليوم : إلى قول الإمام ابن حزم ، في أنّ التحريف كان فاحشًا، وأنّه قد أصاب جميع النسخ، قبل البعثة النبويّة الخاتمة، بل وقبل زمن المسيح بقرون.
وتعتبر "فرضية الوثائق" "documentary hypothesis " التي عليها جمهور النقاد ، من أهمّ مؤيدات فحش التحريف .
وهي تقرّر أنّ التوراة الحالية : تجميع لوثائق مختلفة ، ومتخالفة ، في تفاصيل كثيرة، تمّ جمعها وتهذيبها في القرن الخامس قبل الميلاد.
وأمّا أمر إصابة التحريف جميع النسخ زمن البعثة، فتشهد له المخطوطات العبريّة القديمة وجميع الترجمات المعروفة.
والقول : إنّ نُسخًا من التوراة ، تخالف النسخ والترجمات المشهورة في كثير من منكراتها في باب الإساءة إلى مقام الألوهيّة ، والحطّ من مقام النبوّة ومخالفة المعلوم من التاريخ والعلوم ...إلخ = فهو بعيدٌ جدًا ، لاجتماع التوراة العبريّة والسامريّة على ذكر نفس المنكرات المخالفة لمحكم النص القرآني .
كما أنّ الترجمات السابقة للبعثة الخاتمة –كالسبعينية اليونانية التي تعود إلى القرن الثالث قبل الميلاد، والبشيطا السريانية التي تعود إلى حوالي القرن الثاني بعد الميلاد، والفولجات اللاتينية التي تعود إلى نهاية القرن الرابع = تتفق على إيراد هذه القبائح.
ولا يُعلم أنّ نسخة ، أو ترجمة ، كانت بعد المسيح : تلغي منكرات سفر التكوين ، أو سفر الخروج...
ثم إنّ جماهير النقاد ممن كتبوا في ترجمات الكتاب المقدس – مثل بروس متزجر وغيره - قد أجمعوا أنّه لم تكن زمن الرسول صلّى الله عليه وسلّم ترجمة عربية للتوراة ، وأوّل ترجمة كانت في القرن العاشر بيد الحبر سعديا الفيومي.
وقد كانت ترجمة البشيطا هي الأشهر عند نصارى الجزيرة العربية وما جاورها، ونصها محفوظ إلى اليوم، وفيها ما يُعرف من مناكير التوراة التي ردّها القرآن .
وأمّا يهود الجزيرة العربيّة : فالراجح أنهم كانوا يعتمدون على الترجومات (الترجمات الآرامية)، وهي ، وإن كانت ترجمات تفسيريّة ؛ إلا أنّها توافق النص المشهور في منكراته.". انتهى كلامه ، حفظه الله .
وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم (209007).
والله أعلم .
تعليق