الاثنين 24 جمادى الأولى 1446 - 25 نوفمبر 2024
العربية

ما هي الكيمياء التي حرمها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى؟

285376

تاريخ النشر : 11-08-2018

المشاهدات : 69229

السؤال

إني أعلم أن الله يخلق الأشياء بأسبابها، وأن الله خالق كل صانع وصنعته ؛ لأنه خالق كل شيء ، فالله خلق الإنسان وفعله ومفعوله ، كما قال الله تعالى:  وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ  ، ثم إني تفطنت إلى أن ابن تيمية كان كثيرا ما يبين أن خلق الله للأشياء يكون بتحويل مخلوق إلى مخلوق آخر ، بمعنى أن المخلوق الأول يعدم تماما ولا يبقى منه شيء ، وينشأ منه مخلوق آخر، كما يخرج الله الشجر من الأرض ، وعلمت أن هذا النوع من الخلق هو المشاهد المعلوم بالحس والعقل ، وأنه هو الذي ينبغي أن نستدل به على الخالق ، وليس خلق الشيء من لا شيء كما يظنه كثير منا اليوم ، وذلك لأننا لم نشاهد مخلوقا يخلق إلا من غيره ، وعلى هذا يكون كل شيء غير الله مخلوقا لله فقيرا إليه ، لأن كل جزء من أجزاء العالم حادث ناشئ من غيره / ويمكن عدمه واستحالته إلى غيره . الإشكال عندي : أني وجدت لابن تيمية كلاما في "مجموع الفتاوى" مفاده التفريق بين ما هو مصنوع للإنسان / وما هو مخلوق للرحمن ، وأنه لا يكون المصنوع من جنس المخلوق ، فيفرّق مثلا بين الزجاج و الذهب فيجعل الأول مصنوعا ، والثاني مخلوقا. فماذا يقصد الشيخ بالمخلوق في هذا السياق ؟ يبدو لي أن المخلوق هنا ليس بمعناه العام المذكور في قول الله تعالى:  اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ  ، ولكنه بمعنى آخر خاص ، وهو ما لم يجعل الله أحدا قادرا على صناعته ، كالنبات والحيوان مثلا. ثانيا: إني أعلم أن ابن تيمية لا يحرّم الصناعات، ولكن ألا يكون بردّه بعض ما يسمى اليوم بالصناعات الكيميائية خاصة في باب الجواهر والمعادن كالفضة قد أخطأ ، وجعل بعضا مما هو في الحقيقة من قسم المصنوعات المقدورة للإنسان داخلا في القسم الذي لا يقدر على صناعته عقلا ويحرم السعي فيه شرعا؟ ثم ما الفائدة العقدية من هذا التفريق إن كان كل ما يصنعه مخلوقا ؟

الجواب

الحمد لله.

أولا:

الإيجاد من العدم يسمى خلقا .

وكذلك إيجاد المخلوقات المتولدة من مادة ، تسمى خلقا، كما قال تعالى:  ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ  . وتحويل الشيء من صورة إلى صورة ، يسمى خلقا أيضا، ولهذا نسب الخلق إلى بني آدم، كما في قوله تعالى:  فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ  المؤمنون/14.

وينظر: جواب السؤال رقم : (264261) .

ثانيا:

فرق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بين المصنوع والمخلوق، ومراده بالمصنوع ما يصنعه ابن آدم من المطبوخات والمنسوجات والمبنيات، وأما المخلوق فهو ما خلقه الله تعالى مما ليس للعبد فيه كسب وفعل، كالحيوان، والنبات.

فما يصنعه بنو آدم لم يخلق الله : لهم مثله.

وما خلقه الله لا يقدرون على صناعته ، وهذا علم بالاستقراء.

قال رحمه الله: " فهو سبحانه لم يخلق شيئا يقدر العباد أن يصنعوا مثل ما خلق، وما يصنعونه فهو لم يخلق لهم مثله; فإنه سبحانه أقدرهم على أن يصنعوا طعاما مطبوخا ولباسا منسوجا وبيوتا مبنية، وهو لم يخلق لهم مثل ما يصنعونه من المطبوخات والمنسوجات والبيوت المبنية.

وما خلقه الله سبحانه من أنواع الحيوان والنبات والمعدن ، كالإنسان والفرس والحمار والأنعام والطير والحيتان، فإن بني آدم لا يقدرون أن يصنعوا مثل هذه الدواب.

وكذلك الحنطة والشعير والباقلا واللوبيا والعدس والعنب والرطب وأنواع الحبوب والثمار لا يستطيع الآدميون أن يصنعوا مثل ما يخلقه الله سبحانه وتعالى، وإنما يشبّهونه ببعض هذه الثمار ، كما قد يصنعون ما يشبه الحيوان حتى يصوروا الصورة كأنها صورة حيوان.

وكذلك المعادن، كالذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص: لا يستطيع بنو آدم أن يصنعوا مثل ما يخلقه الله; وإنما غايتهم أن يشبهوا من بعض الوجوه ، فيصفرون وينقلون مع اختلاف الحقائق; ولهذا يقولون : تعمل تصفيرة ؟ ويقولون نحن صباغون .

وهذه " القاعدة " التي يدل عليها استقراء الوجود، من أن المخلوق لا يكون مصنوعا ، والمصنوع لا يكون مخلوقا: هي ثابتة عند المسلمين ، وعند أوائل المتفلسفة الذين تكلموا في الطبائع وتكلموا في الكيمياء وغيرها; فإن الله قال في كتابه : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء .

وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن الله أنه قال : ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة فليخلقوا بعوضة . وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن المصورين ، وقال : من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ ، وقال: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله .

وهذا التصوير ليس فيه تلبيس وغش ، فإن كل أحد يعلم أن صورة الحيوان المصورة ليست حيوانا" انتهى من "مجموع الفتاوى" (29/ 368).

ثالثا:

لم يحرم ابن تيمية رحمه الله الصناعات الكيميائية، وإنما حرم "الكيمياء" القديمة التي يراد بها صناعة الذهب من الحديد أو غيره، وهو ذهب مغشوش يفسد ويزول لونه بعد مدة، وتقترن هذه الكيمياء غالبا بالسحر، كما بين رحمه الله.

فالتحريم هو للغش والسحر لا لمجرد الصناعة، ولهذا لم يحرّم الزجاج مع أنه يصنع من الرمل.

قال رحمه الله: " وأما الكيمياء: فإنه يشبّه فيها المصنوع بالمخلوق، وقصد أهلها إما أن يُجعل هذا كهذا ، فينفقّونه ويعاملون به الناس .

وهذا من أعظم الغش، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مر برجل يبيع طعاما فأدخل يده فيه فوجده مبلولا. فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ فقال: يا رسول الله أصابته السماء - يعني المطر - فقال هلا وضعت هذا على وجهه ، من غشنا فليس منا .

وقوله: من غشنا فليس منا كلمة جامعة في كل غاش.

وأهل الكيمياء من أعظم الناس غشا؛ ولهذا لا يظهرون الناس إذا عاملوهم أن هذا من الكيمياء ، ولو أظهروا للناس ذلك لم يشتروه منهم ، إلا من يريد غشهم.

وقد قال الأئمة: إنه لا يجوز بيع المغشوش الذي لا يعلم مقدار غشه ، وإن بين للمشتري أنه مغشوش.

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن أن يشاب اللبن بالماء للبيع ، وأرخص في ذلك للشرب .

وبيع المغشوش لمن لا يتبين له أنه مغشوش حرام بالإجماع، والكيمياء لا يعلم مقدار الغش فيها؛ فلا يجوز عملها ولا بيعها بحال .

مع أن الناس إذا علموا أن الذهب والفضة من الكيمياء لم يشتروه ...

والولاة ينكرون على من يجدونه يعمل ذلك ، ولو كان أحدهم ممن يعمل ذلك في الباطن ، فيحتاج أن ينكره في الظاهر؛ لأنه منكر في فطر الآدميين ، ولا تجد من يعاني ذلك إلا مستخفيا بذلك أو مستعينا بذي جاه، وعلى أصحابه من الذلة والصغار وسواد الوجوه: ما على أهل الفرية والكذب والتدليس. كما قال تعالى: إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين . قال أبو قلابة: هي لكل مفتر من هذه الأمة إلى يوم القيامة، وهؤلاء أهل فرية وغش وتدليس في الدين ، وكلاهما من المفترين.

وأما القدماء فقد قالوا: إن الصناعة لا تعمل عمل الطبيعة، وأخبروا أن المصنوع لا يكون كالمطبوع، ولهذا كان المصنفون منهم في الكيمياء ، إذا حققوا قالوا: لما كان المقصود بها إنما هو التشبيه، فالطريق في التشبيه كذا وكذا، فيسلكون الطرق التي يحصل بها التشبيه، وهي مع تنوعها وكثرتها ووصول جماعات إليها واتفاقهم فيها: عسرة على أكثر الخلق، كثيرة الآفات، والمنقطع عن الوصول أضعاف الواصلين ، مع كثرتهم .

فجماهير من يطلب الكيمياء لا يصل إلى المصنوع ، الذي هو مغشوش ، باطل طبعا، محرم شرعا ؛ بل هم يطلبون الباطل الحرام ، ويتمنونه ، ويتحاكَوْن فيه الحكايات ، ويطالعون فيه المصنفات ، وينشدون فيه الأشعار ، ولا يصلون إلى حقيقة الكيمياء - وهو المغشوش - !!

بمنزلة اتباع المنتظر الذي في السرداب، واتباع رجال الغيب الذين لا يراهم أحد من الناس، وأمثال هؤلاء الذين يطلبون ما لا حقيقة له معتقدين وجوده، ويموتون وهم لم يصلوا إليه ، وإن وصلوا إلى من يدعي لقاءه من الكذابين.

وكذلك طلاب الكيمياء الذين يقال لهم: " الحُدْبان " ؛ لكثرة انحنائهم على النفخ في الكير ؛ أكثرهم لا يصلون إلى الحرام ، ولا ينالون المغشوش .

وأما خواصهم فيصلون إلى الكيمياء، وهي محرمة باطلة ، لكنها على مراتب، منها ما يستحيل بعد بضع سنين، ومنها ما يستحيل بعد ذلك؛ لكن المصنوع يستحيل ويفسد ، ولو بعد حين؛ بخلاف الذهب المعدني المخلوق فإنه لا يفسد ولا يستحيل؛ ولهذا ذكروا أن محمد بن زكريا الرازي المتطبب - كان من المصححين للكيمياء - عمل ذهبا وباعه للنصارى فلما وصلوا إلى بلادهم استحال فردوه عليه، ولا أعلم في الأطباء من كان أبلغ في صناعة الكيمياء منه" انتهى من مجموع الفتاوى" (29/ 370- 373).

فتبين بهذا أن مراد الشيخ بالكيمياء المحرمة : إنما هي صناعة الذهب المغشوش.

وقال رحمه الله: " وأيضا فإن فضلاء أهل " الكيمياء " يضمون إليها الذي يسمونه السيميا ، كما كان يصنع ابن سبعين والسهروردي المقتول والحلاج وأمثالهم.

وقد علم أنه محرم بكتاب الله وسنة رسوله وإجماع الأمة؛ بل أكثر العلماء على أن الساحر كافر يجب قتله" انتهى من "مجموع الفتاوى" (29/ 383).

وقال أيضا: " ومن أعظم حجج " الكيماوية ": استدلالهم بالزجاج قالوا: فإن الزجاج معمول من الرمل والحصى ونحو ذلك ، فقاسوا على ذلك ما يعملونه من الكيمياء.

وهذه حجة فاسدة؛ فإن الله سبحانه وتعالى لم يخلق للناس زجاجا؛ لا في معدن ولا في غيره؛ وإنما الزجاج من قسم المصنوعات، كالآجر والفخار ونحوهما مما يطبخ في النار.

وقد تقدم أن الله سبحانه وتعالى جعل لبني آدم قدرة على أن يعملوا أنواعا من المطاعم والملابس والمساكن، وكذلك جعل لهم قدرة على ما يصنعونه من الآنية من الفخار والزجاج ونحو ذلك؛ ولم يخلق لهم سبيلا على أن يصنعوا مثل ما خلق الله .

وإذا تبين أن الزجاج من قسم المصنوعات دون المخلوقات، ليس فيه ما يشتبه المصنوع بالمخلوق، بطلت حجة الكيمياء؛ فإن أصل المخلوقات التي خلقها الله لا يمكن البشر أن يصنعوا مثلها ، ولا يمكنهم نقل نوع مخلوق من الحيوان والنبات والمعدن إلى نوع آخر مخلوق.

وهذا مطرد لا ينقض. والله أعلم" انتهى من "مجموع الفتاوى" (29/ 387).

وتبين بهذا أن القاعدة التي قررها شيخ الإسلام ، وهي أن المخلوق لا يقدر الناس على صناعة مثله: قد علمت بالاستقراء، والمراد منها منع الغش، ودفع التوهم بأن أحدا من الناس يمكن أن يصنع من الحديد ذهبا، أو من النحاس فضة، كما كان يزعم أهل الكيمياء.

ولا يتعلق الأمر بشيء عقدي كما ظن السائل، فالإنسان يستطيع تحويل شيء إلى شيء، وهذا يسمى صناعة، ويسمى خلقا أيضا، ولكن الكلام هنا في عدم استطاعته أن يصنع حيوانا أو نباتا أو معدنا خلقه الله، وإنما يحاول التشبه بذلك، كأن يصنع تمثالا، أو رجلا آليا مثلا، أو ذهبا مغشوشا، أو لونا يشبه الذهب، كما هو معلوم اليوم.

رابعا:

بما ذكرنا يتضح خطأ من نسب إلى شيخ الإسلام تحريم علم الكيمياء المعروف اليوم.

وقد جاء في "فتاوى اللجنة الدائمة" (1/ 652): " قرأت في بعض الكتب: أن علم الكيمياء ، هو نوع من أنواع السحر فهل هذا صحيح؟ علما بأني سمعت عن كتاب لابن القيم اسمه (بطلان الكيمياء من أربعين وجها) فهل أن التجارب الكيميائية التي تجرى في المدارس والجامعات لدراسة المواد والعناصر هي حرام باعتبار كونها سحرا أم لا، مع أني قد مارست بعضا منها في المدرسة ولم أر أي أثر لوجود السحر كتدخل الجن أو وجود طلاسم وما إلى ذلك أفيدوني أفادكم الله .

الجواب: ليس علم الكيمياء الذي يدرس لطلاب المدارس من جنس الكيمياء التي منعها العلماء، وقالوا: إنها سحر، وحذروا الناس منها، وذكروا أدلة على بطلانها وبينوا أنها أيضا خداع وتمويه، يزعم أصحابها أنهم يجعلون الحديد مثلا ذهبا والنحاس فضة، ويغشون بذلك الناس ويأكلون أموالهم بالباطل .

أما التي تدرس في المدارس في هذا الزمن فهي تحليل المادة إلى عناصرها التي تركبت منها ، أو تحويل العناصر إلى مادة تركب منها ، تخالف صفاتها تلك العناصر ، بواسطة صناعة وعمليات تجرى عليها فإنها حقيقة واقعية .

بخلاف الكيمياء المزعومة فإنها تمويه وخداع .

وليست [أي : الكيمياء التي تدرس اليوم] من أنواع السحر الذي جاءت النصوص في الكتاب والسنة بتحريمه والتحذير منه.

وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.

اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز" انتهى.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب