الحمد لله.
أولا:
الأنبياء معصومون في التبليغ عن الله تعالى، فلا يكون خبرهم إلا حقا، ولا يقع الغلط في تبليغهم، لا عمدا ولا سهوا . وهذا مجمع عليه بين علماء الإسلام .
ومعصومون من الكبائر كالزنا والسرقة، ومعصومون من الصغائر التي تدل على الخسة، كسرقة لقمة، أو التطفيف بحبة.
وقد يقع منهم الخطأ من الصغائر التي لا تدل على الخسة، لكن لا يُقَرُّون على ذلك، بل يتداركهم الله تعالى ، وينبههم عليه ، فيعودون عنه ، ويتوبون من قريب ، وهم على غاية ما يكون من حال الكمال البشري ، والاصطفاء والاجتباء .
وقد يقع منهم الخطأ في الأمر الدنيوي، كما جاء في حديث تأبير (تلقيح) النخل المشار إليه.
فقد روى مسلم في صحيحه ( 6127 ) عن رافع بن خديج قَالَ: " قَدِمَ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ ، وَهُمْ يَأْبُرُونَ النّخْلَ . يَقُولُونَ يُلَقّحُونَ النّخْلَ . فَقَالَ : (مَا تَصْنَعُونَ ؟ ) قَالُوا : كُنّا نَصْنَعُهُ. قَالَ : (لَعَلّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْراً ) فَتَرَكُوهُ . فَنَفَضَتْ أَوْ قال : فَنَقَصَتْ . قَالَ : فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ : إِنّمَا أَنَا بَشَرٌ ، إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيي ، فَإِنّمَا أَنَا بَشَرٌ ".
هذا ، مع أنه صلى الله عليه وسلم لم يجزم بالأمر، ولم ينههم عن التأبير، وإنما أخبر بظنه، كما في رواية مسلم (2361) : "فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا. قَالَ فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ، فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ: إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ، فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا، فَلَا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللهِ شَيْئًا، فَخُذُوا بِهِ، فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ".
قال النووي رحمه الله:
"قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبراً وإنما كان ظناً؛ كما بينه في هذه الروايات .
قالوا: ورأيه صلى الله عليه وسلم في أمور المعايش ، وظنُّه : كغيره ؛ فلا يمتنع وقوع مثل هذا، ولا نقص في ذلك، وسببه تعلق هممهم بالآخرة ، ومعارفها، والله أعلم " شرح النووي ل "صحيح مسلم" (15/116).
فالأمور الدنيوية قد تكون بوحي، وقد تكون اجتهادا منه صلى الله عليه وسلم.
ومن الأمور الدنيوية التي يجري فيها الاجتهاد والنظر البشري : أمور الحرب والقتال والسفر ونحو ذلك، كأن يختار مكانا للقتال، أو لمعسكر الجيش ، فيشير عليه غيره بما هو أنفع منه، كما حصل في غزوة بدر.
ولهذا قال الحباب بن المنذر رضي الله عنه يوم بدر: " يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟
قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة .
قال في الرحيق المختوم ص 151: "وتحرك رسول الله صلّى الله عليه وسلم بجيشه، ليسبق المشركين إلى ماء بدر، ويحول بينهم وبين الاستيلاء عليه، فنزل عشاء أدنى ماء من مياه بدر، وهنا قام الحباب بن المنذر كخبير عسكري وقال:
" يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة ، قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم- قريش- فننزله ونغوّر- أي نخرب- ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضا، فنملأه ماء، ثم نقاتل القوم، فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: لقد أشرت بالرأي .
فنهض رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالجيش، حتى أتى أقرب ماء من العدو، فنزل عليه شطر الليل، ثم صنعوا الحياض، وغوّروا ما عداها من القلب" انتهى.
هذا، مع أن في ثبوت هذه القصة من حيث الرواية كلاما، وقد ضعفها غير واحد من أهل العلم.
ينظر : "مختصر تلخيص الذهبي" لابن الملقن (5/2139) ، وحواشي المحقق .
وأيضا : "سلسلة الأحاديث الضعيفة" للشيخ الألباني (3448) .
وأما حلق اللحية، فليس من هذا الباب، بل هو أمر ديني، جعل النبي صلى الله عليه وسلم علته مخالفة المشركين الذي يحلقون لحاهم، ويطيلون شواربهم، فأمر بمخالفتهم في الهيئة، وكرر ذلك في جملة أحاديث، ولو كان خطأ لنبهه الوحي عليه.
روى البخاري (5892) عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خَالِفُوا المُشْرِكِينَ: وَفِّرُوا اللِّحَى، وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ.
بل جاء في السنة أن الله أمر نبيه بذلك، فقد روى ابن سعد في الطبقات عن عبيد الله ابن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : " جَاءَ مَجُوسِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَعْفَى شَارِبَهُ وَأَحْفَى لِحْيَتَهُ فَقَالَ : مَنْ أَمَرَكَ بِهَذَا ؟ ، قَالَ: رَبِّي ، قَالَ : لَكِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُحْفِيَ شَارِبِي وَأُعْفِيَ لِحْيَتِي وحسنه الألباني في تخريج فقه السيرة، ص360
ثانيا:
الأمور الجبلية التي يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى البشرية، لا يُطلب فيها التأسي والاقتداء.
وضابط الأفعال الجبلية : كل ما يفعل بمقتضى البشرية ، ولا يظهر منه قصد التعبد والتشريع والدعوة للاقتداء ، وذلك كالقيام، والقعود، والأكل من القصعة، والشرب من القدح، والنوم ، والاستظلال ، والمشي ، وتسريح الشعر ، وإطالته ، أو تقصيره ، ولبس الإزار والرداء والقميص (الثوب) والعمامة ، لأن الإنسان لابد له من لباس يلبسه ، وقد لبس النبي صلى الله عليه وسلم هذه الألبسة التي كانت في قومه .
قال الشوكاني رحمه الله: " ما لا يتعلق بالعبادات ، ووضح فيه أمر الجبلة، كالقيام والقعود ونحوهما : فليس فيه تأس، ولا به اقتداء ، ولكنه يدل على الإباحة عند الجمهور...
القسم الثالث: ما احتمل أن يخرج عن الجبلة إلى التشريع ، بمواظبته عليه على وجه معروف ، وهيئة مخصصة، كالأكل والشرب واللبس والنوم :
فهذا القسم : دون ما ظهر فيه أمر القربة، وفوق ما ظهر فيه أمر الجبلة، على فرض أنه لم يثبت فيه إلا مجرد الفعل.
وأما إذا وقع منه صلى الله عليه وسلم الإرشاد إلى بعض الهيئات ، كما ورد عنه الإرشاد إلى هيئة من هيئات الأكل والشرب واللبس والنوم : فهذا خارج عن هذا القسم ، داخل فيما سيأتي" انتهى من "إرشاد الفحول" (1/ 102).
وأما ما صدر منه صلى الله عليه وسلم على وجه التشريع، فهذا محل الاقتداء، كالتسمية على الطعام، والترغيب في لعق القصعة، والنهي عن الشرب من فم السقاء، والنهي عن الاستنجاء باليمين، وعن الاستجمار بأقل من ثلاثة أحجار، أو الاستجمار برجيع أو عظم.
ويعلم أن فعله صلى الله عليه وسلم للتشريع من جهات :
الأولى : أن تكون بيانا لما أُمر بها ، إيجابا ، أو ندبا ، كأفعال الوضوء فإنها بيان لقوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ المائدة/6.
الثانية : أن يصرح فيها بالدعوة للاقتداء والتأسي ، كقوله صلى الله عليه وسلم : صلوا كما رأيتموني أصلي ، أو قوله : خذوا عني مناسككم .
الثالثة : الترغيب فيها مع فعلها ، وتجتمع هنا السنة القولية والفعلية .
وهناك فعل يحتمل الجبلي والتشريعي ، وضابطه : أن تقتضيه الجبلة البشرية بطبيعتها ، لكنه وقع متعلقًا بعبادة ، بأن وقع فيها أو في وسيلتها ، كالركوب إلى الحج ، ودخول مكة من كَداء ، ونزوله صلى الله عليه وسلم المحصّب بعد الحج (وهو اسم موضع بين مكة ومنى وإلى منى أقرب، ويسمى الأبطح).
وينظر: جواب السؤال رقم : (151146).
ثالثا:
الأصل في أقواله صلى الله عليه وسلم أنها للتشريع ، لأنه مبلغ عن ربه ، مرسل لهداية الخلق ، مأمور بالبيان ، كما قال تعالى : وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ النحل/44 ، وقال : يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ المائدة/67 .
ويدل على أن الأصل في أقواله صلى الله عليه وسلم أنها للتشريع : ما روى أبو داود (3646) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : "كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ حِفْظَهُ ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ ، وَقَالُوا : أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا ؟ فَأَمْسَكْتُ عَنْ الْكِتَابِ ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ فَقَالَ : اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ .
وقد يقول صلى الله عليه وسلم القول لا يريد به التشريع ، وهذا خلاف الأصل ، ولابد من دليل يبين أنه لغير التشريع، كما في قصة تأبير النخل.
رابعا:
إذا اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم في أمر، ولم يوافق فيه حكم الله ، فإنه لا يُقر على ذلك .
جاء في فتاوى اللجنة الدائمة عن الأنبياء : "نعم ، يخطئون ، ولكن الله تعالى لا يقرهم على خطئهم ؛ بل يبين لهم خطأهم ، رحمة بهم وبأممهم ، ويعفو عن زلتهم ، ويقبل توبتهم فضلاً منه ورحمة ، والله غفور رحيم ، كما يظهر ذلك من تتبع الآيات القرآنية التي جاءت في هذا" انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (3/194) .
ولهذا ؛ فالنتيجة : أن كل ما يقوله النبي صلى الله وعليه وسلم ، ويأمر به ، ويرغب فيه : فهو وحي من الله، لأنه إما أن يكون وحيا ، ابتداء، وإما أن يكون اجتهادا صحيحا أُقر عليه، أو خطأ نُبِّه إلى صوابه، ولهذا قال الله تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى النجم/3، 4
وأما الأمور الدنيوية المحضة ، فلم يعتنِ الصحابة رضي الله عنهم بنقلها ، كما اعتنوا بنقل الشريعة ؛ ولذلك : فما بين أيدي الناس منها : قليل جدا ، بالنسبة إلى ما شأنه التشريع والتأسي من أقواله وأحواله المحفوظة ، صلى الله عليه وسلم .
والله أعلم.
تعليق