الحمد لله.
لا تعارض بين الحديثين ، بحمد الله :
فالأول : فيه النهي عن قتل المسلم المصلي الذي ظاهره يدل على التزامه بأحكام الإسلام ، ولم يقترف في الظاهر ما يوجب قتله .
والثاني : في قتال من فعل ما يوجب قتاله ، كالامتناع عن دفع الزكاة.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أشياء تهدر عصمة الدم، كالردة، وقتل النفس، والزنى بعد إحصان، ولم يكن هذا معارضا لنهيه عن قتل المصلين الذين لم يقترفوا في الظاهر ما يوجب القتل.
روى البخاري (6878) ، ومسلم (1676) عَنْ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ الثَّيِّبُ الزَّانِي وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلٰهَ إِلاَّ الله. فَمَنْ قَالَ: لاَ إِلٰهَ إِلاَّ الله فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ : لا يعارض هذا؛ فإن قوله: (إِلاَّ بِحَقِّهِ) يدخل فيه كل ما يهدر عصمة النفس والمال.
قال ابن بطال رحمه الله: " وكذلك فعل أبو بكر الصديق ؛ فإنه شاور أصحابه في مقاتلة من منع الزكاة، وأخذ بخلاف ما أشاروا به عليه من ترك قتالهم ، لما كان عنده متضحًا من قول النبي صلى الله عليه وسلم : (إلا بحقها) ، وفهمه هذه النكتة ، مع ما يعضدها من قوله: (من غَيّرَ دينه فاقتلوه)" انتهى من "شرح صحيح البخاري" (10/ 399).
وقال ابن حجر رحمه الله: " قال عياض: حديث ابن عمر نص في قتال من لم يصل ، ولم يزك، كمن لم يقر بالشهادتين .
واحتجاج عمر على أبي بكر، وجواب أبي بكر : دل على أنهما لم يسمعا في الحديث الصلاة والزكاة؛ إذ لو سمعه عمر لم يحتج على أبي بكر، ولو سمعه أبو بكر لرد به على عمر، ولم يحتج إلى الاحتجاج بعموم قوله: (إلا بحقه).
قلت: إن كان الضمير في قوله (بحقه) للإسلام ؛ فمهما ثبت أنه من حق الإسلام : تناوله. ولذلك اتفق الصحابة على قتال من جحد الزكاة" انتهى من "فتح الباري" (12/ 277).
وحديث ابن عمر هو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ، وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ رواه البخاري (25) ، مسلم (22).
ولفظ البخاري: (إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلاَمِ).
على أن من المنافقين من صدر منهم ما يوجب العقوبة، ولم يعاقبهم النبي صلى الله عليه وسلم لعلة بينها بقوله: لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّهُ كَانَ يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ رواه البخاري (3518) ، ومسلم (2584).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن قيل : فلم لم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بنفاق بعضهم وقبل علانيتهم ؟
قلنا: إنما ذاك لوجهين:
أحدهما: أن عامتهم لم يكن ما يتكلمون به من الكفر مما يثبت عليهم بالبينة ، بل كانوا يظهرون الإسلام ، ونفاقهم يعرف تارة بالكلمة يسمعها منهم الرجل المؤمن ، فينقلها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فيحلفون بالله أنهم ما قالوها ، أو لا يحلفون .
وتارة بما يظهر من تأخرهم عن الصلاة والجهاد ، واستثقالهم للزكاة ، وظهور الكراهية منهم لكثير من أحكام الله .
وعامتهم يُعرفون في لحن القول ...
ثم جميع هؤلاء المنافقين يظهرون الإسلام ، ويحلفون أنهم مسلمون، وقد اتخذوا أَيمانهم جنة .
وإذا كانت هذه حالهم : فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقيم الحدود بعلمه ، ولا بخبر الواحد، ولا بمجرد الوحي ، ولا بالدلائل والشواهد ، حتى يثبت الموجب للحد ، ببينة أو إقرار ...
فكان ترك قتلهم ، مع كونهم كفارا : لعدم ظهور الكفر منهم بحجة شرعية ...
الوجه الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم كان يخاف أن يتولد من قتلهم من الفساد أكثر مما في استبقائهم ، وقد بين ذلك حيث قال: ( لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه).
وأن يخاف من يريد الدخول في الإسلام أن يُقتل مع إظهاره الإسلام كما قُتل غيرُه .
وقد كان أيضا يغضب لقتل بعضهم قبيلتُه ، وناس آخرون ، ويكون ذلك سببا للفتنة ، واعتبر ذلك بما جرى في قصة عبد الله بن أبي لما عرّض سعد بن معاذ بقتله ، خاصم له أناس صالحون وأخذتهم الحمية ، حتى سكَّتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ( القصة رواها البخاري 4141 ، ومسلم 2770 ) .
وقد بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لما استأذنه عمر في قتل ابن أبيّ .
قال أصحابنا [يعني : الحنابلة] : ونحن الآن إذا خفنا مثل ذلك، كففنا عن القتل .
فحاصله : أن الحد لم يُقم على واحد بعينه ، لعدم ظهوره بالحجة الشرعية التي يعلمه بها الخاص والعام ، أو لعدم إمكان إقامته ، إلا مع تنفير أقوام عن الدخول في الإسلام ، وارتداد آخرين عنه ، وإظهار قوم من الحرب والفتنة ما يُربي فساده على فساد ترك قتل منافق ، وهذان المعنيان حكمهما باق إلى يومنا هذا " انتهى من "الصارم المسلول" (3 / 673 – 681).
فالمنافقون كانوا على صنفين: من لم يظهر منه ما يوجب العقوبة، أو لم تقم عليه البينة بذلك، ومنهم من ظهر منه لكن ترك النبي صلى الله عليه وسلم عقوبته درءا لمفسدة أعظم.
وانظر: جواب السؤال رقم : (234071) ، ورقم :(240982) .
وهذا لا يعارض إقامة الحد ، أو قتل من يستحق القتل، إذا ثبتت الجناية ، ولم يُخش من قتله حصول المفسدة التي تترتب على قتل مَنْ ظاهره الصلاح وهو منافق في الباطن، فيقول الناس: لم يقتل أصحابه؟!
وقد كان ما فعله الصديق، وأجمع عليه الصحابة : هو الصواب قطعا، وبه حَفظ الله الإسلام ودولته، وكُف شر المرتدين، وكان كثير من العرب قد ارتد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
والله أعلم.
تعليق