الحمد لله.
أولا:
الحديث صحيح؛ رواه البخاري (1269)، ومسلم (2774) عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: " لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ يُكَفِّنُ فِيهِ أَبَاهُ، فَأَعْطَاهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَتُصَلِّي عَلَيْهِ وَقَدْ نَهَاكَ اللهُ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللهُ فَقَالَ: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) وَسَأَزِيدُهُ عَلَى سَبْعِينَ… ).
ثانيا:
قوله: ( فَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )، لم ير أهل العلم في هذه الحادثة ما يستشكل؛ لأن مقتضى الحال، وما استقر من محبة عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: قاطع في أن عمر رضي الله عنه إنما فعل ذلك: غيرة على النبي صلى الله عليه وسلم، وصيانة لجنابه ، وغيرة على شرعه وسنته، ولم يكن من الإساءة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا العدوان على جنابه في شيء.
فأما الحال فالنبي صلى الله عليه وسلم كان قائما متجها للصلاة على عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول، وعمر رضي الله عنه أراد أن يلحق به، قبل أن يدخل في الصلاة، ويشير إلى استعجاله لفظ الرواية الأخرى: ( فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَثَبْتُ إِلَيْهِ ) رواه البخاري (1366)، ولعله من زحام الناس حوله، لم يستطع أن يلفت انتباه النبي صلى الله عليه وسلم إلا بإمساكه من ثوبه حتى يلتفت إليه .
أو لعله كان ذاهلا عن تصرفه، لما كان يجول في خاطره من شدة استشكاله لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم على رأس المنافقين.
ويشير إلى هذا قول عمر رضي الله عنه بعد ما حدث: " فَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ" رواه البخاري (1366).
وأما توقير عمر رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم، وتعظيمه له: فهو أشهر من أن تساق له الأدلة؛ ويكفي من ذلك الحادثة التي وقعت في نفس سنة هلاك عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال:
" … وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الأَنْصَارِ إِذَا هُمْ قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الأَنْصَارِ، فَصِحْتُ عَلَى امْرَأَتِي، فَرَاجَعَتْنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي، فَقَالَتْ: وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ؟ فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليُرَاجِعْنَهُ، وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ اليَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ، فَأَفْزَعَنِي، فَقُلْتُ: خَابَتْ مَنْ فَعَلَ مِنْهُنَّ بِعَظِيمٍ، ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: أَيْ حَفْصَةُ أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اليَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: خَابَتْ وَخَسِرَتْ، أَفَتَأْمَنُ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَهْلِكِينَ؟ لاَ تَسْتَكْثِرِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلاَ تُرَاجِعِيهِ فِي شَيْءٍ، وَلاَ تَهْجُرِيهِ، وَاسْأَلِينِي مَا بَدَا لَكِ، وَلاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْضَأَ مِنْكِ، وَأَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يُرِيدُ عَائِشَةَ – …" رواه البخاري (2468) ومسلم (1479).
فعمر رضي الله عنه أخوف لله من أن يسيء الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومقامه أجل من أن يتطرق إليه ذلك الوسواس؛ إلا أنه تكلف المتكلفين، وعدوان المعتدين، وشبه أهل الزيغ والضلال.
ثالثا:
مما هو معلوم من دين الإسلام أن من الفروض الواجبة توقير النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه بما يليق بمكانة النبوة والرسالة.
قال الله تعالى: ( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ ) الفتح/8 – 9.
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى:
" قد تقدم من الكتاب والسنة وإجماع الأمة ما يجب من الحقوق للنبي صلى الله عليه وسلم، وما يتعين له من بر وتوقير، وتعظيم وإكرام، وبحسب هذا حرم الله تعالى أذاه في كتابه، وأجمعت الأمة على قتل منتقصه من المسلمين وسابه… " انتهى. "الشفا" (ص 760).
والأخذ بثوب النبي صلى الله عليه وسلم يكون كفرا إذا كان خلاف هذا التعظيم المفروض وخرج مخرج الإساءة والاستهزاء والإيذاء.
قال الله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ) الأحزاب /57.
وقال الله تعالى:
( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ) التوبة/65 – 66.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" اعلم أن عدم احترام النبي – صلى الله عليه وسلم – المشعر بالغض منه، أو تنقيصه – صلى الله عليه وسلم – والاستخفاف به أو الاستهزاء به – ردة عن الإسلام وكفر بالله.
وقد قال تعالى في الذين استهزءوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وسخروا منه في غزوة تبوك لما ضلت راحلته: ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ). " انتهى. "أضواء البيان" (7 / 654).
وأما مجرد الأخذ بثوبه ، صلى الله عليه وسلم، فليس كفرا، لا سيما مع قيام القاطع المانع منه ، كما هو الحال في مثل عمر بن الخطاب، بل ممن هو دونه.
بل قد وقع ما هو أشد من ذلك ، ممن هو أدنى حالا من عمر رضي الله عنه، بكثير؛ ثم لم يكن كفرا.
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: ( كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عُنُقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ، مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ ) .
رواه البخاري (3149)، ومسلم (1057).
قال النووي رحمه الله :
" فِيهِ احْتِمَالُ الْجَاهِلِينَ وَالْإِعْرَاضُ عَنْ مُقَابَلَتِهِمْ وَدَفْعُ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ وَإِعْطَاءُ مَنْ يُتَأَلَّفُ قَلْبَهُ وَالْعَفْوُ عَنْ مُرْتَكِبِ كَبِيرَةٍ لَا حَدَّ فِيهَا بِجَهْلِهِ وَإِبَاحَةُ الضَّحِكِ عِنْدَ الْأُمُورِ الَّتِي يُتَعَجَّبُ مِنْهَا فِي الْعَادَةِ وَفِيهِ كَمَالُ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحِلْمِهِ وَصَفْحِهِ الْجَمِيلِ" انتهى. "شرح مسلم" (7/147) .
والله أعلم.
تعليق