الحمد لله.
أولا:
لا حرج في الدعاء بقول: اللهم لا تجعل للكافرين علينا سبيلا؛ فإن هذا الدعاء يتضمن سؤال الإيمان والثبات عليه، حتى لا يكون للكافرين علينا سبيل، وذلك أن الكفار يتسلطون على المؤمنين عند ضعف إيمانهم.
وهذا أحد المعاني التي قيلت في تفسير الآية.
قال القرطبي رحمه الله – في معرض ذكر الأقوال في الآية -:
" الثالث : أن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا ، إلا أن يتواصوا بالباطل ، ولا يتناهوا عن المنكر ، ويتقاعدوا عن التوبة ، فيكون تسليط العدو من قبلهم ، كما قال تعالى : ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ) .
قال ابن العربي : وهذا نفيس جدا .
قلت [ أي القرطبي ] : ويدل عليه قوله عليه السلام في حديث ثوبان : ( حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ، ويسبي بعضهم بعضا ) ، وذلك أن (حتى) غاية ، فيقتضي ظاهر الكلام أنه لا يسلط عليهم عدوهم فيستبيحهم ، إلا إذا كان منهم إهلاك بعضهم لبعض ، وسبي بعضهم لبعض ، وقد وجد ذلك في هذه الأزمان بالفتن الواقعة بين المسلمين ، فغلُظت شوكة الكافرين ، واستولوا على بلاد المسلمين، حتى لم يبق من الإسلام إلا أقله ، فنسأل الله أن يتداركنا بعفوه ونصره ولطفه" .
انتهى من "الجامع لأحكام القرآن" (5/419) ، وانظر " أحكام القرآن " لابن العربي (1/640).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى :"الآية على عمومها وظاهرها ، وإنما المؤمنون : يصدر منهم من المعصية والمخالفة التي تضاد الإيمان ، ما يصير به للكافرين عليهم سبيل بحسب تلك المخالفة ، فهم الذين تسببوا إلى جعل السبيل عليهم ، كما تسببوا إليه يوم أُحُد بمعصية الرسول ومخالفته ، والله سبحانه لم يجعل للشيطان على العبد سلطانا ، حتى جعل له العبد سبيلا إليه بطاعته والشرك به ، فجعل الله حينئذ له عليه تسلطا وقهرا ، فمن وجد خيرا فليحمد الله تعالى ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " انتهى من " إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان " (1/ 101) .
وقال أيضا رحمه الله:
" التحقيق : أن انتفاء السبيل عن أهل الإيمان الكامل ، فإذا ضعف الإيمان ، صار لعدوهم عليهم من السبيل بحسب ما نقص من إيمانهم ، فهم جعلوا لهم عليهم السبيل بما تركوا من طاعة الله تعالى .
فالمؤمن عزيز غالب، مؤيد منصور مكفي ، مدفوع عنه بالذات أين كان ، ولو اجتمع عليه من بأقطارها ؛ إذا قام بحقيقة الإيمان وواجباته ، ظاهرا وباطنا ، وقد قال تعالى للمؤمنين : ( وَلاَ تَهِنُوا وَلا تحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) [آل عمران: 139] ، وقال تعالى : ( فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمٌ الأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ) [محمد: 35] .
فهذا الضمان إنما هو بإيمانهم ، وأعمالهم التي هي جند من جنود الله ، يحفظهم بها ، ولا يفردها عنهم ويقتطعها عنهم ، فيبطلها عليهم ، كما يَتِرُ الكافرين والمنافقين أعمالهم ، إذْ كانت لغيره ، ولم تكن موافقة لأمره " انتهى من " إغاثة اللهفان " (2/182) .
ومثل ذلك، ما لو دعا: اللهم لا تجعل للشيطان علينا سلطانا، مع أن الله تعالى أخبر بذلك وقال: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) الحجر/42
فحقيقة هذا الدعاء: سؤال الله أن يكون الداعي من عباده الذين لا سلطان للشيطان عليهم.
وكذلك، حقيقة الدعاء المسئول عنه: أن يكون الداعي من المؤمنين الذين لا سبيل للكافرين عليهم.
وفي تفسير الآية أقوال أخرى، تنظر في جواب السؤال رقم: (218407).
ثانيا:
الممنوع هو سؤال المستحيل، وما أخبر الله أنه لا يفعله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فالاعتداء في الدعاء تارة بأن يسأل ما لا يجوز له سؤاله، من المعونة على المحرمات. وتارة يسأل ما لا يفعله الله مثل أن يسأل تخليده إلى يوم القيامة، أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية، من الحاجة إلى الطعام والشراب، ويسأله بأن يطلعه على غيبه، أو أن يجعله من المعصومين، أو يهب له ولدا من غير زوجة، ونحو ذلك مما سؤاله اعتداء لا يحبه الله، ولا يحب سائله" انتهى من "مجموع الفتاوى" (15/ 22).
وأما سؤال الله أن يفعل ما وعد عباده أن يفعله : فهذا كثير في الشريعة ، ولا منع منه .
ومن عظيم ذلك قول الله تعالى : ( لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) البقرة/286
وهذا من عظيم الدعاء وجليله، عند العامة والخاصة، ولا ينفك عن الدعاء به أحد ، من غير نكير من الأمة ، ولا إشكال في لك؛ مع أن الله قد حقق ذلك الدعاء لعباده، وأخبرهم بأنه استجابه لهذه الأمة المرحومة .
ففي "صحيح مسلم" (125): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 284]، قَالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللهِ، كُلِّفْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ، الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ، وَقَدِ اُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا نُطِيقُهَا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ "، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ، فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ، ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي إِثْرِهَا: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة: 285]، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللهُ تَعَالَى، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286] " قَالَ: نَعَمْ " رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [البقرة: 286] " قَالَ: نَعَمْ " رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة: 286] " قَالَ: نَعَمْ " وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة: 286] " قَالَ: نَعَمْ ".
وفي "صحيح مسلم" أيضا (126): عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ [البقرة: 284]، قَالَ: دَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يَدْخُلْ قُلُوبَهُمْ مِنْ شَيْءٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا " قَالَ: فَأَلْقَى اللهُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286] " قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ " رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [البقرة: 286] " قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ " وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا [البقرة: 286] " قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله:
" فصل :
في الدعاء المذكور في آخر ( سورة البقرة ) وهو قوله : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا إلى آخرها .
قد ثبت في صحيح مسلم : أنه قال قد فعلت .
وكذلك في صحيحه من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم تقرأ بحرف منها إلا أعطيته .
وفي صحيحه أيضا عن ابن مسعود قال : { لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهي به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السابعة إليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها قال : إذ يغشى السدرة ما يغشى قال : فراش من ذهب قال : فأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا أعطي الصلوات الخمس وأعطي خواتيم سورة البقرة وغفر لمن مات من أمته لا يشرك بالله شيئا المقحمات } .
قال بعض الناس: إذا كان هذا الدعاء قد أجيب، فطلب ما فيه من باب تحصيل الحاصل، وهذا لا فائدة فيه، فيكون هذا الدعاء عبادة محضة، ليس المقصود به السؤال.
وهذا القول قد قاله طائفة في جميع الدعاء؛ أنه إن كان المطلوب مقدرا فلا حاجة إلى سؤاله وطلبه، وإن كان غير مقدر لم ينفع الدعاء - دعوت أو لم تدع -؛ فجعلوا الدعاء تعبدا محضا، كما قال ذلك طائفة أخرى في التوكل .
وقد بسطنا الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضع، وذكرنا قول من جعل ذلك أمارة أو علامة، بناء على أنه ليس في الوجود سبب يفعل به ؛ بل يقترن أحد الحادثين بالآخر، [كما] قاله طائفة من القدرية النظار، وأول من عرف عنه ذلك الجهم بن صفوان ومن وافقه.
وذكرنا أن " القول الثالث " ، هو الصواب ؛ وهو أن الدعاء والتوكل والعمل الصالح سبب في حصول المدعو به من خير الدنيا والآخرة ، والمعاصي سبب ، وأن الحكم المعلق بالسبب : قد يحتاج إلى وجود الشرط وانتفاء الموانع ؛ فإذا حصل ذلك حصل المسبب بلا ريب .
ثم قال، بعد ذكر أقوال الطوائف في الجواب عن هذا:
" وقد أجيب بجواب آخر، وهو أن الله تعالى إذا قدر أمرا، فإنه يقدر أسبابه؛ والدعاء من جملة أسبابه، كما أنه لما قدر النصر يوم بدر، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم قبل وقوعه أصحابه بالنصر، وبمصارع القوم؛ كان من أسباب ذلك استغاثة النبي صلى الله عليه وسلم ودعاؤه.
وكذلك ما وعده به ربه من الوسيلة، وقد قضى بها له، وقد أمر أمته بطلبها له، وهو سبحانه قدرها بأسباب، منها ما سيكون من الدعاء.. ".
ثم قال بعد كلام طويل أيضا:
" وبيان هذا: أن الشرع وإن كان قد استقر بموت النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر أن الله تجاوز لأمته عن الخطأ والنسيان، وقد أخبر أن الرسول يضع عن أمته إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، وسأل ربه لأمته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فيجتاحهم، فأعطاه ذلك؛ لكن ثبوت هذا الحكم في حق آحاد الأمة، قد لا يحصل إلا بطاعة الله ورسوله، فإذا عصى اللهَ ذلك الشخصُ العاصي، عوقب عن ذلك بسلب هذه النعمة، وإن كانت الشريعة لم تنسخ .
يبين هذا؛ أن في هذا الدعاء سؤال الله بالعفو والمغفرة والرحمة والنصر على الكفار، ومعلوم أن هذا ليس حاصلا لكل واحد من أفراد الأمة، بل منهم من يدخل النار، ومنهم من يُنصر عليه الكفار، ومنهم من يُسلب الرزق؛ لكونهم فرطوا في طاعة الله ورسوله، فيسلبون ذلك بقدر ما فرطوا، أو قصروا.
وقول الله : ( قد فعلت ) ، يقال فيه شيئان:
أحدهما : أنه قد فعل ذلك بالمؤمنين المذكورين في الآية؛ والإيمان المطلق يتضمن طاعة الله ورسوله ؛ فمن لم يكن كذلك ، نقص إيمانه الواجب ، فيستحق من سلب هذه النعم بقدر النقص ، ويعوق الله عليه ملاذَّ ذلك ، ولم يستحق من الجزاء ما يستحقه من قام بالإيمان الواجب .
الثاني : أن يقال : هذا الدعاء استجيب له في جملة الأمة ؛ ولا يلزم من ذلك ثبوته لكل فرد .
وكلا الأمرين صحيح ؛ فإن ثبوت هذا المطلوب لجملة الأمة : حاصل، ولولا ذلك لأُهلكوا بعذاب الاستئصال ، كما أهلكت الأمم قبلهم . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : سألت ربي لأمتي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة ؛ سألته أن لا يُهلك أمتي بسنة عامة ، فأعطانيها ، وسألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فيجتاحهم ، فأعطانيها ، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم ، فمنعنيها . وقال : يا محمد إني إذا قضيت قضاء لم يرد . وكذلك في الصحيحين : { لما نزل قوله تعالى قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم قال النبي صلى الله عليه وسلم أعوذ بوجهك أو من تحت أرجلكم قال : أعوذ بوجهك أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض قال : هاتان أهون }.
وهذا لأنه لا بد أن تقع الذنوب من هذه الأمة، ولا بد أن يختلفوا؛ فإن هذا من لوازم الطبع البشري ، لا يمكن أن يكون بنو آدم إلا كذلك ، ولهذا لم يكن ما وقع فيها من الاختلاف والقتال والذنوب دليلا على نقصها ؛ بل هي أفضل الأمم ، وهذا الواقع بينهم من لوازم البشرية ، وهو في غيرها أكثر وأعظم ، وخير غيرها أقل ، والخير فيها أكثر ، والشر فيها أقل ، فكل خير في غيرها فهو فيها أعظم وكل شر فيها فهو في غيرها أعظم .
وأما حصول المطلوب للآحاد منها : فلا يلزم حصوله لكل عاص ؛ لأنه لم يقم بالواجب ، ولكن قد يحصل للعاصي من ذلك بحسب ما معه من طاعة الله تعالى .
أما حصول المغفرة والعفو والرحمة بحسب الإيمان والطاعة فظاهر ؛ لأن هذا من الأحكام القدرية الخَلْقية ، من جنس الوعد والوعيد ، وهذا يتنوع بتنوع الإيمان والعمل الصالح". انتهى، مقتطفات من "مجموع الفتاوى" (14/142) وما بعدها.
والله أعلم.
تعليق