الحمد لله.
أولا:
يجوز بيع التمر، وهو على رؤوس النخل، بعد أن يبدو صلاحه ؛ لما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : " نَهَى عَن بَيعِ الثَّمَارِ حَتَّى يَبدُوَ صَلَاحُهَا ، نَهَى البَائِعَ وَالمُبتَاعَ – أي المشتري -" رواه البخاري (2194) ، ومسلم (1534) .
ويظهر صلاح التمر في لونه، بأن يحمرّ أو يصفرّ ؛ لما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أنه نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها ، وعن النخل حتى يزهو " ، قيل : وما يزهو ؟ قال : ( يحمار أو يصفار ) أخرجه البخاري (2197).
قال ابن قدامة : " فإِنْ كَانَتْ ثَمَرَةَ نَخْلٍ، فَبُدُوُّ صَلاحِهَا : أَنْ تَظْهَرَ فِيهَا الْحُمْرَةُ أَوْ الصُّفْرَةُ " انتهى من "المغني" (6/158).
والمراد ببدو الصلاح : أول ظهوره وبدايته ، بحيث تكون الثمرة صالحة للأكل ، وليس المراد كمال النضج، ولذلك جاء في الحديث: ( حتى يبدو صلاحها ) ولم يقل: ( حتى يتم صلاحها).
كما لا يشترط بدو صلاح التمر كله ، بل إذا بدا الصلاح في شجرة ، جاز بيع الشجرة كاملة ، وإن لم يبد الصلاح فيها كلها ، باتفاق العلماء. وينظر: "المغني" (6/156).
وقال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء : " وبدو الصلاح في كل شيء من الثمار بحسبه ، ففي ثمار النخل : بدء الاحمرار أو الاصفرار ، ولو في بعضه ، وفي الحبوب حتى تشتد، ولو في بعضها، وفي العنب حتى يبيض أو يسود " انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (14/82).
وإذا كان البستان واحدا ، فلا يشترط أن يبدو الصلاح في كل شجرة من شجر البستان ، بل يعتبر كل نوع على حدة ، فيكفي أن يبدو الصلاح في شجرة واحدة من كل نوع .
فمثلاً : إذا كان البستان فيه أنواع من التمر كالبرحي والسكري مثلا ، فلا يعتبر بدو الصلاح في البرحي كافياً لبيع السكري ، ولكن لا بد من بدو الصلاح في كل نوع ، ولو في نخلة واحدة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " إذا بدا صلاح بعض الشجرة ، كان صلاحًا لباقيها ، باتفاق العلماء ، ويكون صلاحها صلاحًا لسائر ما في البستان من ذلك النوع ، في أظهر قولي العلماء ، وقول جمهورهم ، بل يكون صلاحًا لجميع ثمرة البستان التي جرت العادة بأن يباع جملة، في أحد قولي العلماء " انتهى من "مجموع الفتاوى" (29/ 489) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "الشرح الممتع على زاد المستقنع" (9/ 40) :
" قوله: ( وصلاح بعض الشجرة صلاح لها ولسائر النوع الذي في البستان ) مثال ذلك: البستان فيه أنواع من التمر كالسكري والبرحي وأم حمام ، بدا الصلاح في واحدة من البرحي ، يقول المؤلف: إن بدو الصلاح في هذه الشجرة صلاح لها ، ولسائر النوع ، الذي هو البرحي .
أما السكري وأم الحمام : فلا يكون صلاح البرحية صلاحاً لهما؛ لأن النوع مختلف.
وظاهر كلام المؤلف أنه سواء بيع النوع جميعاً ، أو بيع تفريداً ، بأن بعنا التي بدا صلاحها ، وانتقل ملكها إلى المشتري ، ثم بعنا البقية من نوعها على آخرين ، فالكل صحيح ، حيث ذكر المؤلف أن صلاح بعض الثمرة صلاح لها ولسائر النوع الذي في البستان .
وهذا أحد القولين في مذهب الإمام أحمد : أنه إذا بدا صلاح في شجرة ، فهو صلاح لها ولسائر النوع الذي في البستان.
أما المذهب : فإنه إذا بِيعَ النوع جميعاً ، فصلاح بعض الشجرة ، صلاح للنوع ؛ لأنه لما بيع جميعاً ، صار كأنه نخلة واحدة ، وصلاح بعض النخلة صلاح لجميعها ، فالعقد يقع عليها جميعاً .
أما إذا أفرد : فإنك إذا بعت ما بدا صلاحه ، ثم جددت عقداً لِمَا لم يبد صلاحه ، صدق عليك أنك بعت ثمرة قبل بدو صلاحها ، وقد نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها .
والمذهب أصح مما هو ظاهر كلام المؤلف .
وقال بعض العلماء : إن صلاح بعض الشجرة : صلاح لها ، ولنوعها ، ولجنسها ؛ فمثلاً : إذا كان عند إنسان بستان فيه عشرة أنواع من النخل ، وبدا الصلاح في نوع منها : جاز بيع الجميع صفقة واحدة ، الذي من نوعه ، والذي ليس من نوعه .
لكن المذهب لا يعتبرون ذلك ، يعتبرون النوع ، والمذهب أحوط ، وإن كان هذا القول قوياً جداً..." انتهى .
ثانيًا:
استثنى العلماء عدة صور ، يجوز فيها بيع الثمار ، ولو لم يبدُ صلاحها .
الأولى : أن يبيع الثّمرة مع الشّجر ، فهذا جائز ، سواء كان الثمر قد بدا صلاحه أم لا ، ولا يختلف في ذلك الفقهاء ، لأنّ بيع الثّمر هنا تابع للشّجر ، والقاعدة عند العلماء : " أنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في الشيء المستقل " .
قال ابن قدامة : " أن يبيعها مع الأصل ، فيجوز بالإجماع ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر ، فثمرتها للذي باعها ، إلا أن يشترط المبتاع ) ، ولأنه إذا باعها مع الأصل حصلت تبعا في البيع ، فلم يضر احتمال الغرر فيها " انتهى من "المغني" لابن قدامة (6/ 150).
وفي "الموسوعة الفقهية الكويتية" (15/ 15) : " واستثنى الفقهاء من عدم جواز بيع الثمر قبل بدو صلاحه : ما إذا بيع الثمر مع الأصل ، وذلك بأن يبيع الثمرة مع الشجر ؛ لأنه إذا بيع مع الأصل ، دخل تبعا في البيع ، فلم يضر احتمال الغرر فيه " انتهى .
الثانية : أن يبيع الثمرة قبل بدوّ صلاحها ، بشرط أن يقطعها المشتري في الحال ، ولا ينتظر نضجها ، فهذا البيع صحيح بالإجماع ، وعلّله العلماء بأنّ المنع من البيع قبل بدوّ الصّلاح ، إنّما كان خوفاً من تلف الثّمرة ، وحدوث العاهة عليها قبل أخذها ، وهذا مأمون فيما يقطع في الحال .
قال ابن قدامة : " أن يبيعها بشرط القطع في الحال ، فيصح بالإجماع ؛ لأن المنع إنما كان خوفًا من تلف الثمرة ، وحدوث العاهة عليها قبل أخذها ؛ بدليل ما روى أنس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهو . قال : أرأيت إذا منع الله الثمرة ، بم يأخذ أحدكم مال أخيه ؟ ) رواه البخاري . وهذا مأمون فيما يُقطع ، فصح بيعه ، كما لو بدا صلاحه " انتهى من "المغني" (6/ 149).
ويتصور اشتراط القطع في الحال في بعض الثمار التي يستفاد منها قبل النضج ، كما لو كانت صالحة لتكون علفاً للبهائم مثلاً ، ونحو ذلك من أوجه الانتفاع بها .
والله أعلم.
تعليق