الحمد لله.
تخصيص الصدقة بوقت السحر اعتقادا للفضل: بدعة إضافية؛ لعدم الدليل على هذا التخصيص.
والأصل أن العبادة لا تقيد بزمان أو مكان أو عدد أو هيئة، إلا إذا ورد ذلك في الشرع.
قال الشاطبي رحمه الله في بيان البدعة الإضافية: " فالبدعة إذن عبارة عن طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه ... ومنها التزام الكيفيات والهيآت المعينة، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد، واتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عيدا، وما أشبه ذلك. ومنها التزام العبادات المعينة، في أوقات معينة، لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة، كالتزام صيام يوم النصف من شعبان، وقيام ليلته " انتهى من "الاعتصام" (1/ 37).
وقوله تعالى: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ آل عمران/17
فالمتعلق بالأسحار هو الاستغفار، وليس ما قبله.
قال ابن عطية رحمه الله في تفسيره (4/ 38): " والصبر في هذه الآية، معناه: على الطاعات، وعلى المعاصي والشهوات، والصدق معناه: في الأقوال والأفعال، والقنوت، الطاعة، والدعاء أيضا، وبكل ذلك يتصف المتقي.
والإنفاق معناه: في سبيل الله ، ومظان الأجر كالصلة للرحم وغيرها، ولا يختص هذا الإنفاق بالزكاة المفروضة.
والاستغفار: طلب المغفرة من الله تعالى، وخص تعالى السحر، لما فسر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول، من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر).
وروي في تفسير قول يعقوب عليه السلام: سوف أستغفر لكم ربي، أنه أخر الأمر إلى السحر.
وروى إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال: سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد يقول: رب أمرتني فأطعتك، وهذا سحر فاغفر لي، فنظرت فإذا ابن مسعود.
وقال أنس بن مالك: أمرنا أن نستغفر بالسحر سبعين استغفارة.
وقال نافع: كان ابن عمر يحيي الليل صلاة، ثم يقول: يا نافع آسحرنا؟ فأقول- لا- فيعاود الصلاة، ثم يسأل، فإذا قلت: نعم، قعد يستغفر.
فلفظ الآية إنما يعطي طلب المغفرة، وهكذا تأوله من ذكرناه من الصحابة.
وقال قتادة: المراد بالآية المصلون بالسحر.
وقال زيد بن أسلم: المراد بها الذين يصلون صلاة الصبح في جماعة.
وهذا كله يقترن به الاستغفار.
والسحَر والسحْر، بفتح الحاء وسكونها: آخر الليل، قال الزجاج وغيره: هو قبل طلوع الفجر، وهذا صحيح لأن ما بعد الفجر: هو من اليوم، لا من الليلة" انتهى.
وقال القرطبي رحمه الله في تفسيره (4/ 38) :
" (الصابرين) يعني عن المعاصي والشهوات، وقيل: على الطاعات.
(والصادقين) أي في الأفعال والأقوال.
(والقانتين) الطائعين.
(والمنفقين) يعني في سبيل الله.
وقد تقدم في البقرة هذه المعاني على الكمال. ففسر تعالى في هذه الآية أحوال المتقين الموعودين بالجنات.
واختلف في معنى قوله تعالى: (والمستغفرين بالأسحار): فقال أنس بن مالك: هم السائلون المغفرة. قتادة: المصلون.
قلت: ولا تناقض، فإنهم يصلون ويستغفرون.
وخص السحر بالذكر، لأنه مظان القبول، ووقت إجابة الدعاء. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى مخبرا عن يعقوب عليه السلام لبنيه: (سوف أستغفر لكم ربي) :" إنه أخر ذلك إلى السحر" خرجه الترمذي، وسيأتي. وسأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل" أي الليل أسمع"؟ فقال:" لا أدري؛ غير أن العرش يهتز عند السحر" " انتهى.
ثم إن تقييد الصدقة بالسحر: فيه من التكلف ما لا يخفى، فليس من معتاد الأحوال: أن يطوف السائلون والفقراء بالناس في هذا الوقت، ولا أن يطرقهم الناس في منازلهم أيضا، في هذا الوقت؛ فيقل إمكان ذلك، كما هو ظاهر.
فبادر بالإنفاق في وكل وقت، دن تخصيص أو تقييد، وصل لله في ليلك كله، ما كتب الله لك، واجتهد في الدعاء، والاستغفار في وقت السحر، كما جاء في الآية الكريمة، وكما صحت به الأحاديث.
والله أعلم.
تعليق