الحمد لله.
تحويل النقود إلى بلد آخر له صور:
الأولى:
أن يأخذ المكتب النقود، ويحملها إلى البلد الآخر، وهذا يندرج تحت عقد الجعالة، ولا حرج فيه إذا كان الجُعل معلوما. وهذه الصورة غير واردة هنا.
الثانية:
أن يكون للمكتب مال في البلد الآخر، فيأخذ المال ممن يريد التحويل، ويعطيه ورقة بالحوالة، ليستلم المال في البلد الآخر، بعملة أخرى.
وهذا عقد صرف، ووكالة بأجرة، ولا حرج فيه إذا كانت ورقة الحوالة ورقة رسمية، بأن يتم ذلك عبر البنك، أو مكاتب الصرافة الرسمية.
جاء في "فتاوى اللجنة الدائمة" (13/448): " ما حكم المال المحول من عملة لعملة أخرى، مثلاً أقبض راتبي بالريال السعودي، وأحوله للريال السوداني، علماً بأن الريال السعودي يساوي ثلاثة ريالات سودانية، هل هذا رباً؟
الجواب: يجوز تحويل الورق النقدي لدولة، إلى ورق نقدي لدولة أخرى، ولو تفاوت العوضان في القدر؛ لاختلاف الجنس، كما في المثال المذكور في السؤال، لكن بشرط التقابض في المجلس.
وقبضُ الشيك، أو ورقة الحوالة: حكمه حكم القبض في المجلس" انتهى.
ويجوز للمكتب أن يتنازل هنا عن أجرة الوكالة، أو أن يعطي للمحوّل مكافأة، لاستفادته من الحوالة بتحصيل ماله الذي في البلد الآخر؛ لعدم ما يمنع ذلك.
فإذا لم يكن المكتب من مكاتب الصرافة الرسمية، فإن ورقة الحوالة لا يوثق بها ولا تعتبر قبضا.
ومما سبق يبتين أنه لا يجوز أن يكون تسليم المال في البلد الآخر بنفس العملة التي استلم بها المكتب المال أولا، لئلا يكون قرضا جر نفعا، ولذلك قرر الجواب أن يكون بعملة أخرى. وذكر أن ذلك "عقد صرف".
الصورة الثالثة:
أن يأخذ المكتب المال على سبيل القرض، على أن يسدده في البلد الآخر بنفس العملة، وهذا لا حرج فيه، ويسمى السفتجة، وهي اشتراط سداد القرض في بلد آخر، وفيها نفع للطرفين، فينتفع المقرض بأنه يستلم المال في البلد الآخر، بنفس العملة التي استلم بها في البلد الأول. وينتفع المقترض بما يأخذه من مال، وبالسحب من رصيده الذي في البلد الآخر، والسفتجة جائزة على القول الراجح.
لكن لا يجوز هنا أن يعطي المكتب مكافأة للمحوّل؛ لأنها فائدة على القرض، فتكون ربا.
قال ابن قدامة رحمه الله: " وروي عنه [أي عن أحمد] جوازها؛ لكونها مصلحة لهما جميعا. وقال عطاء: كان ابن الزبير يأخذ من قوم بمكة دراهم، ثم يكتب لهم بها إلى مصعب بن الزبير بالعراق، فيأخذونها منه، فسئل عن ذلك ابن عباس، فلم ير به بأسا، وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه سئل عن مثل هذا، فلم ير به بأسا. وممن لم ير به بأسا ابن سيرين، والنخعي. رواه كله سعيد... والصحيح جوازه؛ لأنه مصلحة لهما من غير ضرر بواحد منهما، والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها، بل بمشروعيتها. ولأن هذا ليس بمنصوص على تحريمه، ولا في معنى المنصوص، فوجب إبقاؤه على الإباحة" انتهى من "المغني" (4/239).
وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: عما إذا أقرض رجل رجلا دراهم، ليستوفيها منه في بلد آخر فهل يجوز ذلك؟ أم لا؟
فأجاب:
" إذا أقرضه دراهم ليستوفيها منه في بلد آخر: مثل أن يكون المقرض غرضه حمل الدراهم إلى بلد آخر، والمقترض له دراهم في ذلك البلد وهو محتاج إلى دراهم في بلد المقرض، فيقترض منه ويكتب له " سفتجة "، أي: ورقة إلى بلد المقترض؛ فهذا يصح في أحد قولي العلماء.
وقيل: نهي عنه؛ لأنه قرض جر منفعة، والقرض إذا جر منفعة كان ربا.
والصحيح الجواز؛ لأن المقرِض رأى النفعَ بأمن خطر الطريق في نقل دراهمه إلى ذلك البلد، وقد انتفع المقترض أيضا بالوفاء في ذلك البلد، وأمن خطر الطريق؛ فكلاهما منتفع بهذا الاقتراض. والشارع لا ينهى عما ينفعهم ويصلحهم، وإنما ينهى عما يضرهم." انتهى من "مجموع الفتاوى" (29/531).
وفي "المعايير الشرعية"، ص232: " مستند جواز التعامل بشيكات التحويلات المصرفية إذا كان المراد تحويله من جنس النقد المدفوع، أنها من قبيل السفتجة، وهي جائزة على أحد قولي الفقهاء" انتهى.
ومما سبق يتبين أنه في هذه الصورة يشترط أن يتم تسليم المال في البلد الآخر، بنفس العملة التي استلم بها في البلد الأول، عكس ما ذكرناه في الصورة الثانية. فلو اشترط التسليم بعملة أخرى، كان ربا؛ لأنه صرف، مع تأخير القبض، فيكون من ربا النسيئة.
والصورة المسئول عنها لا تخرج عن الصورة الثانية أو الثالثة.
وقد تبين أن المكأفاة تجوز في الثانية، وتمنع في الثالثة، وأن الصورة الثانية إنما تجوز إذا كان مكتب التحويل مكتبا رسميا.
والله أعلم.
تعليق